الموجة الأولى
انقطاع مؤقت
أكتوبر 2011
الأحداث التى نرصدها ونحن على طريق المواجهة خلال الثمانية أشهر الماضية يمكن تجميعها تحت عنواين «مواضيع داخلية» و«مواضيع خارجية». أما «الخارجية» فتتمحور حول إسرائيل، و«الداخلية» حول الانقسام. كانت «أجندة» نظام مبارك دائما هى إقامة الفتنة بين المسلم والمسيحى، والإسلامى والعلمانى، والمصرى والأجنبى، والغنى والفقير. وإلى هذه القائمة أضاف المجلس العسكرى الفتنة بين الشعب والجيش ــ بالرغم من أن ما دفع الناس إلى التظاهر أمام سفارة الصهاينة يوم ٢٠ أغسطس كان الغضب الشعبى لقتل القوات الإسرائيلية ثلاثة من حرس الحدود المصريين فى رفح المصرية وجرح ثلاثة آخرون (سيموتون من جراحهم لاحقا).
اتجه المتظاهرون إلى السفارة الإسرائيلية ليطالبوا بالاعتذار وبطرد السفير وبتنكيس العلم، رفضت إسرائيل الاعتذار ولم تتبنِ وزارة عصام شرف أيّا من المطالب الشعبية وسألت الإسرائليين فقط عن تفسيرهم للحدث. تقع السفارة فى الدور السادس عشر من عمارة سكنية على مدخل كوبرى الجامعة فى الجيزة، وفى فجر يوم 21 أغسطس تسلق عامل نقاشة شاب العمارة، وقام بإنزال العلم الإسرائيلى ورفع العلم المصرى واحتفلت الجماهير بالموسيقى والشماريخ.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتظاهر فيها الشباب أمام سفارة إسرائيل.
احتفلت مصر حين فتح الدكتور نبيل العربى معبر رفح – فى فترته القصيرة كوزير خارجية – وتوسط فى مصالحة بين السلطة الفلسطينية وحماس. وبعد هذا بأيام، فى ذكرى النكبة فى 15 مايو، قامت شعوب العالم بمسيرات تضامن مع الفلسطينيين، أما فى مصر فقد أوقف الجيش المصرى حافلات المتضامنين المصريين فى الطريق إلى سيناء. لم يسمح المجلس العسكرى بمسيرة سلمية إلى رفح، فاتجهت المسيرة إلى السفارة الإسرائيلية وهناك، أمام السفارة، هاجمتها قوات الشرطة العسكرية المصرية. أمروا الشباب بالركوع على الأرض أمام السفارة والهتاف بهتافات التحرير، وكانوا يضربونهم وهم يهتفون. أخذوا أعدادا من الشباب إلى الحجز العسكرى. أطلقوا النار وأصابوا أحدهم، عاطف يحيى إبراهيم، بطلقة فى الرأس. (عاطف، وكان عمره 22 عاما سيظل فى غيبوبة لمدة خمسة أشهر ثم سيستشهد).
بعد الانتصار الرمزى المُدَوِّى للنَقَّاش الشاب قامت الحكومة، فى حركة باهرة الغباء، ببناء حائط من المسلح على كوبرى الجامعة، مواجها لمدخل العمارة التى تحوى السفارة الصهيونية، وكان الجدار شديد الشبه بالجدار الصهيونى العنصرى فى أراضى فلسطين المحتلة.
أعلن الناس الجمعة 9 سبتمبر «جمعة تصحيح المسار»، وبعد الأناشيد والخطب والهتافات فى التحرير اتجه الشباب إلى رموز الكيانات المطلوب تصحيح مسارها: دار القضاء العالى فى وسط البلد، وزارة الداخلية فى لاظوغلى، مبنى الإذاعة والتليفزيون فى ماسبيرو، وسفارة إسرائيل فى الجيزة. المسيرات كلها سلمية وكلها للمطالبة بالتغيير فى سياسات الدولة. عند السفارة هدموا الجدار الجديد ثم تسلق عدد من الشباب المبنى وأنزلوا العلم الجديد الذى كان قد رُفِع مكان العلم المصرى.
ما حدث بعد ذلك ما زال قيد التحقيق، لكن الروايات كلها تتفق على أن القوات المسلحة وقوات الأمن المركزى – وكانت موجودة منذ بداية الحدث – لم يحاولوا منع مجموعة دخلت المبنى واقتحمت شقة كانت السفارة تستعملها كمخزن، وأن هذه القوات بدأت فى التحرك بعد أن قذفت المجموعة بكمية من الأوراق من نوافذ شقة المخزن هذه إلى الشارع. وقتها تحركت القوات، وكان ناتج تحركها أن احتجزت 26 شخصا، وأصابت 1049 شخصا، وقتلت ثلاثة: مصطفى حسن (24 سنة)، علاء سالم (23 سنة) ورجب حسين (أيضا 23 سنة). وفى اليوم التالى عادت القوات واحتجزت 92 مواطنا حدث أن كانوا فى المنطقة. كل المحتجزين يتعرضون الآن إلى المحاكمة العسكرية، وفى محاولة لدعمهم تقدمت 21 مجموعة سياسية ببلاغات ضد نفسها تؤكد مشاركتها فى المسؤولية عن أحداث السفارة.
مشكلتنا مع إسرائيل هى مشكلة سيادتنا فى بلادنا، وإدارة أمورنا بما فيه مصلحة المصريين؛ فكرتان فى صميم العوامل المحركة للثورة. وإلى أن ننجح فى تنصيب حكومة نأتمنها على سيادتنا ومصالحنا سيضطر شبابنا المرة تلو المرة إلى الدفاع عن هذه السيادة وهذه المصالح، وسوف يصور هذا للعالم على أنه الفوضى وعدم المسؤولية، وسوف يصور للجيش على أن الشباب غير عابئ بأمنهم، يدفعهم باستهتار إلى حرب جديدة، وسيستعمل هذا لبث المزيد من الفُرقة بين الشعب والجيش.
ولدعم هذا التفريق الخطير هناك تحالف جديد يتكون الآن بين المؤسسة الأمنية والقوات المسلحة؛ مؤسستان طالما ضرب حسنى مبارك الواحدة منهما بالأخرى تتوجهان الآن للتآلف. رفض المجلس العسكرى أى إعادة هيكلة للداخلية. أعلنوا إلغاء قوات الأمن المركزى ثم إذا بهم يظهرون على الساحة مرة أخرى تحت مسَمَّى قوات "مكافحة الشغب"، كما أعلنوا إلغاء "مباحث أمن الدولة" فإذا بها تتحول إلى "جهاز الأمن الوطني". ويضم هذا التحالف الجديد الإعلام الحكومى الذى يبث من ماسبيرو مؤَمَّنا بالحرس الجمهورى، ويدخل فى علاقات خدمات متبادلة مع بقايا النظام الذى رفض المجلس العسكرى بإصرار إقصائهم عن أى مجال من مجالات الحياة العامة.
يعيدون استعمال كل تكتيكات فترة مبارك: بث الفرقة، إخافة الناس من بعضها، ومن الأجانب ومن الـ"أجندات الخارجية" ومن الـ"أيدى الخفية" و"المندسين"، اللعب على وتيرة حاجتنا إلى الاستقرار وحاجتنا إلى طمأنة المستثمرين وحاجتنا لعدم تشويه صورة مصر فى الخارج، حاجتنا لاحترام الدولة وأدواتها.
بصمات الأمن نعرفها جيدا: اكتشف نقطة ضعف محتملة وابدأ فى الضغط عليها، انشر الشائعات، انثر الأموال، دس مثيرى الفتن، ثم هاجم. نرى هذه البصمات الآن فى كل تعاملات القوات المسلحة مع الثوار. حين نتأمل الماضى القريب، نتفق على أن زواج المصلحة بين الشرطة والجيش بدأ مع أحداث العباسية فى ٢٣ يوليو، واستقوى إلى أن وصلنا إلى فض إعتصام التحرير فى أول اغسطس.
السبت 23 يوليو
"دى المستشفى اللى اتولدتى فيها"، تقولها أمى كلما مررنا إلى جانب مستشفى الإسعاف فى الجلاء. "عارفة؛ انت بتقوليلى الحكاية دى من ساعة ما اتولدت" كنت أمِلّ وأعترض. ولما كبرت حولتها إلى مزحة فكنت أحيانا أبادؤها: «ماما، ماما، إيه المبنى ده؟» تنظر إليه من فوق نظارتها المنزلقة دائما على أنفها ثم تنظر إلىّ متعجبة: «دى المستشفى اللى اتولدتى فيها. بتستعبطي؟" والآن، بما أنها غير موجودة لتقولها أقولها أنا فى صمت دائما، عند هذا التقاطع، دائما، دائما، دائما: دى المستشفى اللى اتولدت فيها. ربما سأبدأ قريبا فى أن أقولها لأولادى. ربما قد بدأت فعلا. الآن أقولها للصديق الذى اصطحبنى فى سيارته فمشينا وراء المسيرة: "دى المستشفى اللى اتولدت فيها".
المسيرة قامت من موقع الاعتصام فى التحرير فى الخامسة، هادفة إلى وزارة الدفاع عن طريق العباسية. عند وزارة الدفاع سنسلمهم قائمة بمطالبنا. خمسة أشهر مرت على ثورتنا المجيدة الرائعة الناجحة ولازلنا نحتج ونسلم قوائم مطالب – الآن إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رئيسنا الفعلى. المجلس يتباطأ فى التعامل مع كل قضية نحتاج إلى الإسراع فيها: جدول زمنى للإنتخابات، تطهير الإذاعة والتليفزيون، إعادة هيكلة الداخلية. وهم يستوقفون الشباب ويحتجزونهم ويحاكمونهم بتهم مختلفة أمام المحاكم العسكرية. مطالب اليوم تتضمن توصيف وظيفى واضح للمجلس العسكرى وجدول زمنى مفصل للإنتخابات البرلمانية والرئاسية، كما أننا نطالب بالقبض على ضباط الشرطة المتهمين بقتل الشهداء وترويع أهاليهم، ونطالب أيضا بإيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين.
وفى بياننا بالطبع الفقرة التى أصبحت معتادة والتى تطالب المجلس العسكرى والوزارة بوضع جدول زمنى للبدء فى برامج وإجراءات العدالة الاجتماعية مثل وضع حد أدنى وأقصى للأجور، وإعادة فحص وتوزيع الميزانية، ووضع سياسات تشغيل للمعطلين، ومراجعة منظومات المعاشات والتأمينات.. نعرف أنهم لن يفعلوا، وأن هذا سيكون عمل الحكومة المنتخبة، لكننا نشعر أن هذه المطالب يجب أن تظل مطروحة وأننا يجب أن نعمل على أن نصل بالفعل إلى انتخاب حكومة تبدأ فى تنفيذها.
صدر بيان يوم الخميس يعدد إنجازات الثورة: التعديل الوزارى، وقرار علانية محاكمة مبارك، وقرار تخصيص دوائر لمحاكمات قيادات النظام والمتهمين بقتل الثوار – كل هذه المكاسب انتزعها الشباب من المجلس العسكرى والوزارة عن طريق تصعيد الاحتجاجات والاعتصامات.
مسيرة اليوم تتزامن مع عيد ثورة 1952، لتُذَكِّر المجلس العسكرى بتلك الجملة الاحتفالية التى ظل الجميع يرددها فى فبراير: « فى 1952 ثار الجيش ودعم الشعب ثورته، وفى 2011 ثار الشعب وحمى الجيش ثورته".
طلعت المسيرة من التحرير فى الخامسة. ركبنا السيارة ومررنا فى وسط البلد فوصلنا إلى تقاطع الجلاء مع 26 يوليو لأرى أصدقاءنا يمرون أمامنا فى المسيرة ونحن نجلس فى زحمة السيارات وفى مواجهتى على الرصيف المقابل والمسيرة بيننا مستشفى الجلاء، المستشفى التى ولِدتُ فيها.
ولدتُ على الترولى فى حوش الاستقبال فى مستشفى الجلاء ــ فى منتصف الطريق بين بيت أسرة أمى فى العتبة والشقة التى سوف نستأجرها فى الزمالك بعد سبعة أعوام. وحسب مزاج أمى وهى تحكى فالقصة تدور حول أننى كنت دائما ــ ولا زلت ــ "مستعجلة على نفسي"، أو تدور حول كيف تنجز هى دائما الأمور فى زمن قياسى: أتمت ولادتى فى ساعة واحدة، وأنجبت أختى فى وسط رسالة الدكتوراة التى انتهت منها فى سنتين ونصف وكتبت فصولها الأخيرة وهى حامل فى أخى، وأختى تستند إلى ساقيها لترفع نفسها عن الأرض وتبدأ فى تعلم المشى ــ ولكن كل هذا كان فى لندن وفى قصة أخرى .
هنا، فى قصص القاهرة، تقوم ثورة 1952، ويعين الخريجان الشابان فى جامعة القاهرة ثم يرسلا فى بعثة للاستزادة فى الدراسة، ويعودا ليقيما المحاور الجغرافية الأساسية لحياتى فى القاهرة. الزمالك/العتبة، خط مستقيم يعبر كوبرى أبو العلا ليمر ببولاق وبأطلال الإسطبلات الخديوية حيث تطل رؤوس الخيل الحجرية تتأمل المارة، ثم المستشفى التى ولدت فيها، ثم المبنى المهيب لدارالقضاء العالى، ثم شارع فؤاد تمتد وسط البلد على جانبيه، وميدان الأوبرا التى لم تعد أوبرا، والمسرح القومى والرويعى الذى يمر تحت بيت جدى حيث ولد أخى ــ ليس فى الممر بالطبع وإنما فى البيت وطوفى تعنى بأختى ليلى وخالى يلاعبنى على سلم العمارة بصخب شديد يلهينى حتى انصرف الطبيب ودخلت فوجدت أمى فى روبها المنزلى من القطيفة الزهرى والنونو الجديد، علاء، بين ذراعيها..
والآن ينفك المرور وتتحرك السيارات فنمشى فى شارع رمسيس ونمر بالمستشفى القبطى فنجدنا فى ذيل المسيرة. المسيرة تتكون من نحو ثلاثة آلاف شخص وفى آخرها شاب يرتدى تى شيرت ليمونى عليه لوجو "دولتشى وجبانة". ألمح منى تمسك الهاتف إلى أُذُنٍ بيد وباليد الأخرى توزع منشورات "لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين". مسيرات أول أمس الخميس فى الإسكندرية والسويس اطلقوا عليها النار، وأمس واليوم كانت هناك نقاشات كثيرة حول طلوع هذه المسيرة أساسا، لكن الإحساس العام عند الشباب هو أننا يجب أن نستمر فى الضغط على المجلس العسكرى، ولذا فحتى من منا يشكّ فى جدوى وأمان هذه المسيرة موجود للدعم وليشهد على ما يجرى فى الشارع. عدنا إلى الهتافات: "ياللى ساكت ساكت ليه؟ خدت حقوقك ولّا إيه؟" ومرة أخرى هناك الناس على الشرفات يرقبوننا، لكنهم اليوم فى الأغلب حياديون، والشارع يحاول أن يستمر فى حياته العادية.
وبعد الكاتدرائية وبجوار مستشفى جامعة عين شمس نترك السيارة وننضم إلى المسيرة، وبعد نحو عشرة دقائق من المشى إلى جوار أراضى مستشفى الجامعة نجد أنفسنا فجأة نصطدم بمن يمشون أمامنا ونسمع الصياح من مقدمة المسيرة: "الجيش! الجيش!" أغلق الجيش الطريق. نستمر كلنا فى محاولات التقدم لنرى الجيش، وفى بداية الطريق المؤدى إلى مطلع كوبرى 6 أكتوبر نرى الحواجز من لفافات الأسلاك الشائكة ووراءها ثلاثة صفوف من الشرطة العسكرية كل رجل يحمل مدفع ووراء الشرطة العسكرية تقف الدبابات. بيوت أهل العباسية إلى يميننا وشارع واحد ضيق يمر خلالها. السور الحديدى لجامع الفتح إلى يسارنا وصف من الجنود متأهب وراء السور وقد أغلقوا البوابات. نرى شيخ يمسك بحديد البوابة ويجادل الجنود فى غضب. البعض يقول أنه إمام الجامع. توقفنا لكن الناس تموج بتلك الحركة العشوائية الثائرة التى تحدث حين لا تستطيع الجموع الوصول إلى مرادها. الشباب فى المقدمة يقفون وجها لوجه مع الجنود عبر الأسلاك الشائكة. وصلنا إلى نقطة فاصلة ولا نعرف ماذا نفعل. أشعر أن كثير من الشباب الآن يرحبون بالاشتباك مع الجيش، لكننا ندس بأنفسنا بينهم وبينه ونهتف "الجيش المصرى بتاعنا والمجلس مش تبعنا"!