يقدم الكثير من الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين والماليين روشتات علاج لمشكلات البشرية القادمة، ولا تخرج مجمل كل تلك التحليلات عن وصفات تقليدية ومتوقعة بداية من ضرورة حماية صحة البشر، وإصلاح منظومة الرعاية الصحية التى هزمتها كورونا فى مختلف دول العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى تقديم وصفات تقليدية لدعم الاقتصاد عن طريق سياسات مالية ومبادرات دعم مالى حكومى مباشر، وزيادة الإنفاق على القطاعات الرئيسية، وضبط أسعار العملات، وإعادة التوازن لأسواق الأسهم والسندات.
وفيما يتعلق بالوصفات الاستراتيجية لعالم ما بعد كورونا سيطرت كتابات تتوقع زيادة التهديد الصينى للريادة الأمريكية، وبدء فاصل جديد للصعود الصينى على حساب التراجع الأمريكى فى كل بقاع العلم ومختلف مجالات الحياة.
وقليل من المفكرين انطلق فى تحليلاته من انتقاد السلوك الصينى، والذى أدى إلى ما يشهده العالم من غلق شبه تام لا يعلم إلا الله متى ينتهى وكيف ستكون تكلفته.
***
من أهم خصائص الأوبئة محليتها، إذ تعرف البشرية ظهور الكثير من الأوبئة على مر العصور، الأغلبية العظمى من هذه الأوبئة تبقى محلية فى محيطها الجغرافى يتسع نطاقها أو يقل طبقا لدرجة السيطرة على انتشار الفيروس الجديد، وقليلة جدا هذه الفيروسات التى تصبح عالمية أو إقليمية (منطقة محددة بعيدا عن مكان النشأة) فى طبيعتها كما كان الحال فى وباء السارس أو الإيبولا، ويتطلب ذلك إلا أن تكون السلطات فى البقعة التى خرج منها الفيروس أمينة فى مواجهتها للفيروس، وتخبر الآخرين بما حدث، وتشركهم فى مواجهة الفيروس كى لا ينتقل وينتشر حول العالم، خاصة إذا سمحت طبيعة الفيروس بسهولة هذا الانتشار.
لم يحدث ذلك فى حالة فيروس كورونا، ولم تقم القيادة الصينية بما يجب تجاه شعبها وبقية شعوب العالم، البداية جاءت مع إنكار وجود فيروس جديد، وتمادت السلطات، وألقت القبض على الطبيب الذى شكك فى وجود فيروس غير معروف ينتقل بسهولة ولا يظهر أى علامات على المصابين به فى الأيام الأولى للإصابة به، بما يجعله ذا خطورة غير مسبوقة، واتهمت السلطات الصينية الطبيب «لى وين ليانج» البالغ من العمر 34 عاما بنشر أخبار كاذبة عبر الإنترنت، والإخلال بالنظام الاجتماعى فى الصين، وأجرت تحقيقات معه وأُلقى القبض عليه.
ثم تم نقل الطبيب الشاب إلى المستشفى فى 12 يناير بعد إصابته بالفيروس من مريضه، وتأكد إصابته بالمرض فى 1 فبراير قبل إعلان وفاته بعد ذلك بأيام قليلة.
ولم تقدم الصين على وقف السفر من وإلى مدينة ووهان حيث ظهر فيروس كورونا، فقط وبعدما دخل وخرج 7 ملايين شخص من المدينة تم اتخاذ قرار الغلق، لكن هذا القرار اتُخذ بعدما سافر مئات الآلاف من الأشخاص لخارج مدينة ووهان مما تسبب فى نشر الفيروس فى كل بقاع العالم.
وتمادت السلطات الصينية فى عدم اكتراثها بأرواح البشر؛ إذ رفضت أن يدخل مدينة ووهان علماء وخبراء الأمراض المعدية من دول أوروبية وأمريكية لمعرفة تفاصيل ما يجرى والمساعدة فى حصر نطاق انتشار الفيروس.
***
وبسبب غياب الحريات الصحفية عن الصين لا يعرف على وجه اليقين أعداد الإصابات والوفيات نتاج كورونا، المؤكد أن فيروس كورونا لا يزال يمثل خطرا كبيرا، وهو ما يتردد معه المسئولون الصينيون فى إعادة الحياة لطبيعتها، أغلب المتاحف والمدارس الصينية ما زالت مغلقة، وكذلك دور السينما والفاعليات الكبيرة التى يحضرها مئات أو آلاف الأشخاص، ولن نر بعد اكتظاظ وسائل المواصلات العامة بمئات الملايين من الصينيين كما كان الوضع قبل ظهور كورونا.
ويساعد على هذا التعتيم ما تفرضه الصين من قيود على وسائط السوشيال ميديا الرئيسية، فحكومة الصين تمنع فيسبوك وتويتر داخل حدودها، إضافة لمنع كبريات وكالات الأنباء العالمية والصحف الرئيسية فى الغرب من العمل بحرية داخل أراضيها، وصنفت مؤسسة «مراسلون بلا حدود» الصين العام الماضى فى المرتبة 176 بين 180 فى مؤشر حريات الصحافة والإعلام.
***
حققت الصين طفرة تنموية غير طبيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة جعلتها تتقدم وتصبح صاحبة الاقتصاد الثانى فى العالم من حيث الكم، وصاحب ذلك خروج الكثير من التحليلات عن قرب وصول الاقتصاد الصينى للمرتبة الأولى، وقد يكون هذا التصور صحيحا فيما يتعلق بالكم، لكن عندما تتعلق المقارنة بالكيف، فمازال أمام الصين أشواط كبرى وطويلة واجب اجتيازها على مهل.
وتكفى نظرة بسيطة على عدد العلماء الصينيين الذين فازوا بجوائز نوبل فى مجال العلوم (طب وكيمياء وفيزياء) لمعرفة موقع الصين الفعلى فى سلم التطور العلمى، فلم يفز من علماء الصين إلا أربعة فى هذه المجالات فى حين فاز 28 يابانيا و80 ألمانيا و98 بريطانيا و258 أمريكيا.
أخطأ الغرب برأسماليته المتوحشة فى اختيار الصين كى تصبح مصنعا للعالم؛ حيث الأيادى العاملة الرخيصة والمدربة، لكن هذا الأمر سيصبح من الماضى فى عالم ما بعد كورونا.
***
لم تعترف الصين بخطئها الفادح والمكلف، وعلى النقيض سارعت بتقديم يد العون للكثير من الدول حول العالم، وسيدفع الكثير من هذه الدول ثمن مساعدات تلقوها من الدولة التى صدّرت لهم فيروسا شديد الخطورة بسبب الإهمال وعدم الاكتراث بالأرواح، وبدلا من الاعتذار وقبول المسئولية عن انتشار الفيروس حول العالم مثل دولة ناضجة واثقة من نفسها، تقوم الصين بدعاية استراتيجية مرتدة تقوم على ثلاثة أركان. أولها أنها سيطرت على انتشار الفيروس، وهو ما يعطى جرعة تفاؤل، ويوفر نموذجا ناجحا للاقتداء به، وثانيها يعتمد على خلق جدل حول مصدر الفيروس من خلال الترويج أن الفيروس ظهر فى الصين، لكن قد لا تكون الصين مصدره، ثالثها يتبنى استراتيجية دعائية هجومية تبرز صورة الصين المثالية من خلال التركيز على صعوبة التعامل مع الفيروس فى الدول الغربية خاصة إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة.
وللصين تاريخ طويل من الحملات الدعائية لإجبار العالم على تصديق روايتها للأحداث كما الحال مع أزمات هونج كونج والتبت والأقلية الايجورية المسلمة، وستدل الأسابيع والأشهر القادمة على نجاح الصين من عدمه هذه المرة.
كاتب صحفى متخصص فى الشئون الأمريكية ــ يكتب من واشنطن