ما بالي إذن لا أفرح؟ - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما بالي إذن لا أفرح؟

نشر فى : الخميس 2 يوليه 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 2 يوليه 2020 - 9:20 م

الكاميرا تجول في شوارع القاهرة عشية رفع الحظر وتبث لنا مشاهد ملونة من قلب الحدث. المقاهي المغلقة تستعد لتفتح بعد طول انتظار، المقاعد المتربة تُنظف ولمبات النور المطفأة تضوي من جديد. المفارش المطوية تُفرَد وأصوات الملاعق والشوك والسكاكين تعزف لحن العودة. بقايا زينة رمضان لازالت هناك وكأنها تحاول أن تتدارك البهجة في لياليه بأثر رجعي. بعد الآن لن أسمع الجملة المتكررة من كل شباب الأسرة: حاموت واشرب قهوة، فبوسع أي شاب من صباح باكر أن يشرب القهوة كما هي خالصة أو بكل إضافاتها التي تبدأ بالحليب وتنتهي بالمكسرات، كيف كبر جيلنا وشاب وشاخ من دون أن يدمن القهوة؟ أفتش في ذكريات حظر التجول عاميّ ٦٧ و٧٣ فلا أكاد أَجِد فيها شيئاً يخص القهوة، هل اختلاف طبيعة العدو من إسرائيل لكورونا له دخل في تغيير الأولويات؟ محتمل، لكن في الحالتين يوجد صراع من أجل البقاء، وهذا ليس موضوعنا. نكات المصريين على نسبة ال٢٥% التي سيُسمح لها بدخول المقاهي خفيفة الظل جداً. تغرق صفحات التواصل الاجتماعي وتنتقل بسرعة البرق عبر الحدود الجغرافية، هذا شعب تغير فيه كل شيء تقريبا إلا قدرته المدهشة على السخرية. الحركة والضجة والدردشة واللمّة والقعدة الحلوة كلها ستعود، أليس هذا هو ما كنا نتمنى جميعاً حدوثه: أن نعيش حياتنا الطبيعية كما كانت قبل تعليمات منظمة الصحة العالمية؟ بلى هو بالضبط ما كنا نتمنى حدوثه، فما بالي إذن لا أفرح؟ خائفة من شيء ما .
***
أحاول أن أتصرف كما لو أن شيئا جباراً لم يحدث منذ أربعة أشهر، أتذكر كل خططي الصغيرة لقضاء إجازة الصيف، أستعيد أشواقي لكل المحرمات التي كانت تجعلني نفسي. لن أضطر بعد الآن لأعود هرولة من تمشيتي المسائية قبل السادسة تارة وقبل الثامنة تارة أخرى، ولن أحتاج أن أرد على الشرطي- الذي قفشني بعد ميعاد الحظر بخمس دقائق- بأن هناك سباقاً سريعاً للدراجات بطول شارعنا ورغم ذلك فإنه ترك الصبية المتسابقين واستوقفني أنا، أقول لن أرد على الشرطي لأنه لن يظهر لي أصلاً، فأنا أتحرك في إطار اللوائح. سأستريح من ملل نشرات الأخبار التي لا حديث لها إلا عن كورونا.. كورونا.. كورونا حتى طهقنا منها وسأتابع مرة أخرى مانشيتات الصحف عن الهند والسند وبلاد تركب الأفيال، ولن يعود بوسع هذا الأردوغان اللئيم أن يختبئ خلف "العصفورة" فينتهز انشغالنا جميعاً بكورونا ليمتد ويتوسع. لن أغالب دموعي وأنا أقلّب ألبومات الصور وأفصص تقاطيع أحبتي الذين أتمنى أن أراهم وأخشى ألا أراهم، فأنا ذاهبة إليهم أو هم آتون إلىّ. سأتردد على الجامعة والنادي والسينما والكوافير مثل أيام زمان وسأستفيد من التخفيضات العظيمة في أسعار الملابس، لن أتوتر إذا ما انقطع النت فأنا سأودع زووم ووبينار وأظهر بشحمي ولحمي وبكامل هندامي، سأذهب للمكتبة وأشم رائحة الكتب ولن تخدعني العناوين التي أختارها أونلاين، سأرتاح من توزيع اسمي وعنواني على عمال الدليڤري حتى إشعار آخر وسيتوقف طرقهم المتكرر على بابي، أنا عائدة عائدة عائدة فما بالي إذن لا أفرح؟ خائفة من شيء ما .
***
خائفة لأنني أعلم أنه في اللحظة التي سأحجز مقعداً لأجلس عليه في المقهى أو السينما أو النادي أو في أي مكان عام سيكون علىّ أن أحسب لهذه الخطوة ألف حساب، الكل موضع شك ولا أحد يعرف من أي شخص مجهول تأتيه الطعنة على وجه التحديد. هذا الشخص المجهول مثَلُهُ كمثل علي بابا الذي دخل خلسة إلى مغارة الأربعين حرامي وباغتته عطسة مدوية انتبه على إثرها اللصوص وراح كبيرهم يسألهم واحداً واحداً: إنت اللي عطست؟ فيردون تباعاً: مش أنا اللي عطست يا ريس.. مش أنا.. مش أنا.. وبعد قليل تبين الجميع أن غريباً في المغارة هو الذي عطس! فترى أي علي بابا سيكون في جواري ليعطس ومن أي غريب يصيبني الرذاذ القاتل؟، إنه قد يكون النادل أو بائعة التذاكر أو منادي السيارات أو المدرب أو أي عابر سبيل. خائفة لأنني ما أن أهمّ بالعودة لطبيعتي حتي تنبهني كمامتي إلى أن هناك ما أختفي منه خلف هذا القناع، ولأن هذه المرأة المتوجسة التي تتقمصني وتتعطر بالكحول ليست لها رائحتي وهى لا تشبهني. خائفة لأني لا أجيد تمثيل الاندماج في هذا العالم الموازي الذي يقال فيه إن كل شيء تمام، وفي الأثناء تنزل على شاشة ذاكرتي قائمة طويلة تضم أسماء كبيرة وصغيرة ومن كل الأحجام لضحايا كوڤيد ١٩، وفي تلك القائمة ناس أعرف عنهم أكثر من مجرد اسم، وخائفة لأني أعرف أنني سأصارع قلقاً عميقاً فأغلبه ويغلبني.
***
الخوف والفرح لا يجتمعان وأنا خائفة من شيء ما، الفرح المسروق يسعد نعم لكنه لا يدوم ولكي يدوم فإنه يحتاج الأمان، وإلى أن يظهر العقار المعجزة أو تخرج علينا عصا كمثل عصا سيدنا موسى تبتلع كل سلالة هذا الكوڤيد الشرير، فإن مكاني سيبقى بعيداً بعيداً مع ناس تتمنى الانطلاق ولا تقدر عليه حالياً، وتحب الحياة لكن على طريقتها، وبشُرطي أو بدونه سأكون سندريلا التي تعود قبل "الحظر".

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات