قديما قال أرسطو: «إن السياسة مثل الطبيعة تخشى الفراغ». ولطالما تردد فى الأقوال المأثورة والأمثال الدارجة أن «الفراغ يبحث دوما عمن يملؤه». أما معترك العلاقات الدولية، فقد شهد فى ستينيات القرن المنصرم ما عرف، حينئذ، بسياسة «ملء الفراغ»، التى تبنتها إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق دوايت أيزنهاور، عقب انسحاب القوى الاستعمارية التقليدية، مثل بريطانيا وفرنسا، من مستعمراتها فى أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، بهدف بسط السيطرة الأمريكية على تلك المستعمرات، متذرعة بملء الفراغ الجيواستراتيجى الناجم عن جلاء الاستعمار الغربى، وحماية المصالح الاقتصادية للدول الرأسمالية من مخاطر الزحف الشيوعى المتعاظم وقتذاك.
ففى ثنايا رسالته للكونجرس، مطلع يناير 1957، أكد أيزنهاور، على أهمية ملء ذلك الفراغ، بغية احتواء التمدد السوفييتى الآخذ فى التعاظم منذ أزمة السويس 1956، علاوة على حماية منابع النفط، وضمان أمن إسرائيل، من خلال إحلال النفوذ الأمريكى محل نظيريه البريطانى والفرنسى. وتوسلا لتلك المقاصد، طالب أيزنهاور الكونجرس بتخويله استخدام القوة العسكرية فى الحالات التى يراها ضرورية لضمان السلامة الإقليمية، وحماية الحلفاء فى الشرق الأوسط من أى اعتداء عسكرى تشنه الشيوعية الدولية، فضلا عن تفويضه إمدادهم بالدعم الاقتصادى، والمساعدات العسكرية.
وبعدما شرعت بريطانيا عام 1968، فى طى صفحات «استراتيجية شرق السويس»، التى كانت تشمل الخليج والشرق الأدنى، حينما كانت قناة السويس تشكل الحد الجيوسياسى الفاصل ما بين نفوذ بريطانيا القارى الأوروبى، وممتلكاتها فى الهند والشرق الأوسط، عهد الغرب إلى الولايات المتحدة بملء الفراغ الاستراتيجى المترتب على ذلك الانسحاب البريطانى. ودونما تردد، أطلق، هنرى كيسنجر، مستشار الأمن القومى الأمريكى، حينها، ما عرف بـ«الخطة الكبرى» للدفاع عن المصالح الأمريكية والغربية فى المنطقة، وحماية الحلفاء فى الخليج، وتعزيز الاستقرار فى ربوع الشرق الأوسط. وبينما كانت الإدارة الأمريكية، وقتئذ، مقيدة بـ«مبدأ نيكسون» الذى يمنعها من إرسال أى قوات عسكرية فى مهام قتالية خارج البلاد، إلا لغرض الدفاع الاضطرارى عن المصالح الحيوية الأمريكية، انبرت واشنطن فى تأهيل حلفاء إقليميين للاضطلاع بتلك المهام. واستنادا إلى موازين القوى التى أفرزتها هزيمة 1967، أُسند الأمر إلى إيران والسعودية، ضمن تحالف تقوده واشنطن، ويعتمد «استراتيجية الركيزتين المتساندتين»، حيث شكلت إيران «الشاهنشاهية»، بذراعها العسكرية، قوته الصلبة، فيما جسدت السعودية، بنفوذها السياسى وثقلها الثقافى، قوته الناعمة.
مع إقدام الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين على تقليص تموضعهم الاستراتيجى فى أفريقيا والشرق الأوسط، توطئة للتوجه تلقاء شرق آسيا، وتحضيرا لحشد الفعالية الأمنية والعسكرية فى مواجهة التنين الصينى، هرعت كل من موسكو وبكين وأنقرة وطهران، إلى ملء الفراغ الجيوسياسى الذى ستتمخض عنه عملية إعادة الانتشار العسكرى الغربى، عبر إبرامهم اتفاقات للتعاون الاستراتيجى، وعقد صفقات للتسلح مع الدول التى رحلت عنها القوات الغربية، بما يتيح لأربعتهم ترسيخ موطئ قدم استراتيجية فى بقاع جيوسياسية حيوية.
بعد عقدين من الحرب العبثية فى أفغانستان، باتت القوات الأمريكية، كما تلك التابعة لـ36 دولة منخرطة فى مهمة «الدعم الحازم» للحلف الأطلسى، قاب قوسين أو أدنى، من إنهاء وجودها العسكرى هناك. الأمر الذى طرح تساؤلات مثيرة بشأن ملء الفراغ الجيوسياسى، الذى سيتأتى من رحيل تلك القوات مجتمعة. وخلافا لفيتنام، التى تمخض الانسحاب الأمريكى منها عام 1975، عن صعود حركة استقلال وطنية، لم تتورع، بمرور الزمن، عن الانخراط فى علاقات طبيعية مع واشنطن، ربما يفسح الانسحاب من أفغانستان والعراق هذه الأيام، مجالا لسيطرة حركات دينية مذهبية متناقضة، تطلق فى الأولى شعار إقامة «الإمارة الإسلامية»، بينما تشهر فى الثانية، لواء «الجمهورية الإسلامية» بإيعاز إيرانى، تحفه تطلعات للتوسع فى فضاءات إقليمية أرحب، إذا ما سنحت الفرصة فى قابل الأيام.
فى خضم تهافتها على ملء الفراغ الاستراتيجى المنبعث من الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، لم تتورع كل من روسيا والصين وإيران وتركيا، عن مد جسور التواصل مع حركة طالبان، باعتبارها الأقرب إلى إحكام قبضتها على السلطة فى البلاد. فبموازاة وصف الخارجية الصينية لها كقوة سياسية وعسكرية حاسمة، يمكنها الاضطلاع بدور حيوى فى عملية السلام والمصالحة وإعادة الإعمار، وتشديد بكين على أهمية الدور الإيجابى الذى يمكن أن تلعبه منظمة شنغهاى فى تعزيز السلام والمصالحة وعملية إعادة الإعمار، أوردت صحيفة «ساوث تشينا مونينغ بوست»، الصينية، أن بكين ستتحرى السبل الكفيلة بملء الفراغ الأمنى الذى ستتركه الولايات المتحدة فى أفغانستان. وإبان ثانية زياراته إلى الصين بعد تلك السرية عام 2019، أكد وفد من حركة طالبان، قبل أيام، أن الأراضى الأفغانية لن تُستخدم كمنصة لتهديد الصين، التى تتقاسم مع أفغانستان حدودا جبلية بطول 76 كيلومترا، تخلو من المعابر الحدودية. بدورها، حثت الصين، التى تتطلع لتأمين مصالح استراتيجية شتى، تتصدرها مبادرة الحزام والطريق، وفد طالبان، على فك الارتباط بالحركة الإسلامية لتركستان الشرقية «ميتو»، التى تصنّفها بكين والأمم المتحدة منظمة إرهابية.
أما روسيا، التى تعكف على استمالة حركة طالبان عبر نسج خيوط التفاهم معها، فتسعى لعرقلة تحركات واشنطن لإعادة التموضع الاستراتيجى فى دول الجوار الأفغانى عقب انسحابها من أفغانستان، عبر إجهاض مساعيها لإقامة قواعد عسكرية أو الاحتفاظ بقوات فى تلك الدول. ومن جانبها، عمدت إيران إلى ترميم علاقاتها بطالبان، بالتوازى مع استنفار الأقليات الشيعية الأفغانية، والمضى قدما فى تشكيل ميليشيات من اللاجئين الأفغان على الأراضى الإيرانية، أسوة بفصيل «فاطميون»، ليكونوا أذرعا عسكرية ووكلاء لطهران داخل المعترك الأفغانى.
بينما أكد الحلف الأطلسى استمرار دعمه الحكومة الأفغانية من خلال التمويل، والوجود المدنى، ومواصلة برامج التدريب للقوات الأفغانية خارج البلاد عبر إطلاق المرحلة الأولى فى تركيا مؤخرا، أبت واشنطن إلا معالجة تداعيات انسحابها المتسرع. وفى هذا السياق، هرعت إلى اعتماد الآليات الكفيلة بملء الفراغ الاستراتيجى الناتج عن رحيل القوات الأجنبية من أفغانستان، والحيلولة دون تحولها إلى ملاذات آمنة للجماعات الراديكالية التى لن ترعوى عن استهداف الولايات المتحدة وجنودها ومصالحها حول العالم، فضلا عن منع روسيا والصين من التغلغل لملء ذلك الفراغ الاستراتيجى، ودحض الادعاءات المتعلقة بتقويض الانسحاب الأمريكى لمصداقية الردع التقليدى للولايات المتحدة فى مواجهة منافسيها وخصومها من الدول والتنظيمات الإرهابية.
فعلى المستوى السياسى، أكد الرئيس بايدن، استمرار الشراكة بين بلاده وأفغانستان، على الرغم من إتمام الانسحاب المخطط للقوات الغربية فى الموعد المقرر. وأثناء زيارته الأولى للهند، التى تحرص بدورها على تعزيز علاقاتها الوثيقة بالحكومة الأفغانية، تباحث وزير الخارجية الأمريكى مع المسئولين الهنود بشأن التدابير المشتركة لكبح جماح التغلغل الصينى فى أفغانستان عقب الانسحاب الغربى منها. وتوخيا منها لكبح جماح التمدد الروسى، قررت وزارة الدفاع الأمريكية، بداية من العام المقبل، وقف الاعتمادات المالية المخصصة لصيانة مروحيات «مى ــ17»، الروسية الصنع، التى يستخدمها سلاح الجو الأفغانى.
أما على الصعيد العملياتى، وإعمالا للدليل الاستراتيجى للأمن القومى المؤقت، الذى أعلنته الإدارة الأمريكية فى مارس الماضى، فقد قررت واشنطن استبقاء 650 عنصرا من قواتها فى أفغانستان، ليظل مطار كابول مرفأً آمنا للعمليات الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية والإغاثية. كما اتجهت لإنشاء عدد من القواعد العسكرية بدول الجوار الأفغانى، بغرض تسهيل التحرك السريع، والتدخل الفعال، والدعم المرن للقوات الأمريكية صوب أفغانستان مستقبلا، فضلا عن مؤازرة القوات المتبقية هناك، وحماية السفارة الأمريكية، ودعم القوات الحكومية الأفغانية. وقد بدأت واشنطن اتصالاتها بهذا الخصوص، مع انقضاء تفاهماتها السابقة مع تلك الدول بشأن استخدام قواعد عسكرية، على شاكلة قاعدة «كرشى خان أباد» الجوية الأوزبكية، التى تجمد استخدامها عام 2005، وقاعدة «ماناس» بقرغيزستان، التى انتهى أجل الاستعانة بها عام 2014، فى الوقت الذى تبدو القواعد العسكرية الأمريكية بالخليج بعيدة عن مسرح العمليات الأفغانى، على نحو يشكل عائقا أمام تحقيق الفعالية الاستراتيجية المطلوبة لدحر طالبان.
وبينما لا تزال عاكفة على دراسة العرض التركى بتأمين مطار كابول والبعثات الدبلوماسية فى أفغانستان، بإشراف أمريكى وأطلسى، جنحت إدارة بايدن لاستلهام التجربة الأمريكية فى الصومال والعراق، لجهة شن ضربات جوية لإنهاك القوى المناهضة لواشنطن داخل البلدين بعد انسحابها منهما، كحركة الشباب الصومالية المتطرفة، والميليشيات المسلحة الموالية لإيران فى العراق. فمؤخرا، نفذت المقاتلات الأمريكية عمليات نوعية ضد معاقل حركة طالبان، التى ترى إدارة بايدن فى التكثيف المقلق لهجماتها والتفاقم المروع فى أعداد ضحاياها، «خطرا وجوديا» بالنسبة للحكومة الأفغانية، كما تتخوف من أن يفضى انتزاعها للسلطة إلى جعل أفغانستان «دولة منبوذة». الأمر الذى قرأه خبراء كمحاولة أمريكية لتدارك خطأ الانسحاب الغربى المتعجل من أفغانستان، وإنقاذها من السقوط الوشيك فى براثن طالبان، عبر تقويض القدرات العسكرية للأخيرة، وإعاقة تقدمها المفزع نحو فرض هيمنتها المطلقة على عموم البلاد.