فى محنة الإمام على بن أبى طالب «كرم الله وجهه» مع الخوارج عبرة لمن يعتبر.
إن قبول الإمام على بالتحكيم الشهير فيما بين حقه الشرعى فى الخلافة وبين باطل معاوية بن أبى سفيان كان من المؤكد قرارا سياسيا قابلا للأخذ والعطاء، وللترحيب به أو نقده ورفضه، لكنّ حماقة الخوارج وضيق أفقهم الدينى والسياسى ومبالغتهم فى الادُّعاء لأنفسهم بامتلاك الطّهارة الدينية أدّى إلى شقّ صفوف معسكر الإمام على وإضعافه، وبالتالى فتح الطريق أمام انتصار المعسكر الأموى وإدخال العرب فى دائرة الملك العضوض إلى يومنا هذا.
هذا العقل الخوارجى المغرور المتزمّت لم يكتف بممارسة لعبة الاختلاف الانتهازى فى السياسة والمبالغة فيها إلى حدٍّ التهجُّم على شخص الإمام والتشكيك فى نقاء إيمانه، وهو الطاهر العف الشريف الذى أعطى للدين الجديد كل ذرة من جهده وروحه وفكره، وإنُّما أيضا وبعنجهيّة أصر أصحاب هذا العقل على أنه لا مكان فى الساحة السياسية العربية آنذاك إلا لشعار واحد فقط وهو «لا حكم إلا لله».
وهو طرح دعائى إقصائى ردّ عليه الإمام على بقولته الشهيرة الخالدة: «كلمة حقّ يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألا يكون أمير، برَّاَ كان أو فاجرا»، أى المذهب السياسى الفوضوى العدمى الذى لا دخل له بالدّين، والذى باغتياله المجرم للإمام أنهى الحقبة الراشدية الواعدة بأن تتطور تدريجيا إلى نظام حكم معقول ومتوازن.
بل إن الخوارج، بعقلهم السياسى المتشنٍّج العدمى، أضاعوا بعد سنوات فرصة أخرى لإرجاع المسار الراشدى الشورى فى حكم بلاد الإسلام عندما ساهموا بغوغائية وقلّة ذوق فى منع عبدالله بن الزبير من انتزاع الخلافة من يد الأمويين بعد وفاة يزيد بن معاوية.
•••
نحن هنا أمام مدرستين: مدرسة قائمة على مبادئ دينية وأخلاقية وسياسية سامية، لكنَ ضمير أصحابها لا يقبل استعمال تلك المبادئ لتدمير الأوطان وتفتيت المجتمعات، إنها مدرسة الإمام على كرم الله وجهه. تقابلها مدرسة الجنون الخوارجى التى، بسبب انغماسها فى لعبة الهوس العقائدى، لا يهمُها مصير الأمة ولا التعامل مع الواقع وتعقيداته، وهى فى معركة التخريف العقائدى على استعداد لإماتة الألوف من أتباعها وتفريخ الفرق التى تتبارى فى الجنون والدموية فيما بينها.
بعد سنين وكثير من التضحيات انتهى وجود كل الفرق الخوارجية بمسمياتها وأتباعها، لكن مدرستها الفكرية القائمة على ممارسة «كلمة الحق التى يراد بها باطل» بقيت فى المجتمعات العربية.
بل إنها فى السنوات الأخيرة قد طورت أساليبها وأقنعتها. فما عادت فقط فى شكل جيوش وعصابات محاربة، كما هو الحال مع داعش والنصرة وأخواتهما، وإنما أصبحت متجذرة فى حياتنا السياسية والثقافية والاجتماعية. لنحاول إبراز أمثلة من تلك الممارسات.
لقد كان النقد الموجّه لنظام الحكم السابق فى العراق ووجوب استبداله بنظام ديمقراطى كلمة حق مؤكّدة، لكن الأيام أظهرت أن خوارج العراق، ومعهم أنصارهم من الأمريكيين والأوروبيين وبعض العرب والمسلمين، رفعوها كلمة حق يراد بها باطل. كان المطلوب قيام حكم طائفى إقصائى فاسد ونهبا استعماريا لثروة العراق البترولية وتقسيما أنهك العراق وهيَّأه لقيام الجنون الداعشى.
لقد كان الحكم فى ليبيا استبداديا فاسدا يجب أن ينتهى، لكن خوارج حلف الناتو وأتباعه أخفوا وراء كلمة الحق تلك باطل هدف استباحة أخرى للثروة النفطية وتهيئة لإدخال ليبيا فى صراعات دموية قبلية ودينية وعرقية تجعلها دولة فاشلة.
لقد كان نظام الحكم فى سوريا دكتاتوريا وطائفيا وجب أن يحلَ محلَه نظام حكم ديمقراطى. لكن ما إن تحركت الجماهير بعفوية سلمية مطالبة بإصلاحه حتى دسَ خوارج العرب والخارج أنوفهم وجيشوا الجهاديين التكفيريين الإرهابيين من كل بقاع العالم، وأمدُّوهم بالمال والسلاح والمساندة السياسية. وبينّت الأيام أن شعارات الحق الديمقراطية أريد بها باطل تدمير المقاومة العربية ضد الصهيونية فى كل مكان، وتدمير دولة عربية محورية.
فى مصر كانت فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين القصيرة مليئة بالأخطاء والخطايا وكان شعب مصر مهيّئا لإسناد قوى مدنية أخرى تنقل مصر من الحكم الاستبدادى السابق لثورة بناير إلى حكم ديمقراطى معقول، لكن قوى خوارجية مضادة للثورة أرادت من وراء صيحة الحق تجاه حكم الإخوان باطل الأخطاء والخطايا التى تعيشها الآن الساحة المصرية المنهكة المليئة بالنيران المشتعلة فى ألف مكان ومكان.
واليوم يقوم حلف دولى لإيقاف جنون داعش وأخواتها فى العراق وسوريا، لكن الدلائل تشير إلى أن وراء ذلك الحق باطل التمهيد لعودة جيوش الاستعمار وتقوية قبضته على كل ثروات ومقدّرات الحياة العربية، وتدمير قطرين عربيين أساسيين تمهيدا لحصار مصر وإضعافها فى ساحة الصّراع العربى ــ الصهيونى، ومن ثمّ إدخال هذه الأمة فى سنين طويلة من الظلام والضعف وحياة البؤس.
•••
لا يسمح المجال لذكر عشرات الأمثلة لاستعمالات انتهازية لمطالب ديمقراطية وحقوقية وثقافية فى صور شعارات حق يُراد بها فى الحقيقة باطل امتيازات قبلية أو عائلية أو طائفية أو دينية أو حتى اقتصادية نفعية.
كلمات الإمام على الخالدة يجب أن تصبح مقياسا ومعيارا نعلّمه لشباب الربيع العربى لاستعماله عند تقييمهم لكل نشاط سياسى عربى وأجنبى، إذ إن روح الخوارج ما زالت ترفرف فى سماء العرب.