تمتلئ وسائل الإعلام العربية، المرئية والسمعية، يوميا بمحاولات تفسير ما يحدث فى أرض العرب من صراعات ونكبات مجتمعية وانتكاسات هائلة فى السياسة والاقتصاد. وتحظى بعض العناوين بقسط وافر من الاهتمام ومن إبرازها كأسباب لكل ما يحدث من مصائب وويلات.
من بين تلك العناوين ما يشدد على موضوع الصراعات الطائفية، ومنها ما يشير إلى غياب الديموقراطية، والبعض يبرز السقوط المذهل للنظام الإقليمى القومى العربى الذى كان إلى حد ما يمنع الصراعات العبثية بين الأنظمة العربية، وأخيرا هناك من يحيل الموضوع برمُته إلى التراث الثقافى العربى الذى أفسد الحكم والمجتمعات والعباد عبر القرون من خلال قراءات خاطئة وفهم متخلف متزمت منغلق للدين الإسلامى الحنيف.
إبراز تلك العناوين والأسباب هو صحيح يؤكده الواقع العربى. لكن فى اعتقادى أن هناك عنوانا لم يحصل على الاهتمام الكافى ليصبح موضوعا مجتمعيا مطروحا للنقاش الواسع وللدراسة المتعمقة. إنه موضوع مدى تناغم وتفاعل القيم الأخلاقية مع ممارسة السياسة فى بلاد العرب. وبمعنى آخر، هل هناك محل للقيم الأخلاقية فى ضبط وتوجيه الحياة السياسية فى بلاد العرب؟
***
الواقع أن هذا الموضوع مطروح بشدة منذ القدم. فالمفكر والدبلوماسى الإيطالى، ميكيافيلى، قد طرح منذ عدة قرون مسألة الفصل التام بين القيم الأخلاقية وممارسة السياسة. وقد تبنت الغالبية الساحقة من المجتمعات الغربية مبادئ المدرسة الميكيافيلية هذه وفصلت بين عالمى السياسة والأخلاق بالنسبة لما تقوم به الدولة وأنظمة الحكم وما تصدره مؤسسات التشريع. ونتج عن ذلك قبول عام بأن القيم الأخلاقية التى تنطبق على الأفراد ليس بالضرورة تنطبق على السياسى. فإذا كان الكذب والخداع والمراوغة مثلا صفات غير حميدة وغير أخلاقية بالنسبة للفرد العادى، فإنها ليست بالضرورة كذلك بالنسبة للسياسى الذى قد يضطر أن يمارسها إذا اعتقد أن ممارستها هى من أجل الصالح العام. لكن تبنى هذه المدرسة قد أدى إلى إفساد الكثير من أنظمة الحكم الديموقراطية.
ولذلك يجد الإنسان نفسه أمام مراجعات كثيرة فى الغرب بشأن انتشار الفساد وغياب العدالة وقبول المواطن العادى للسياسى الفاسد وذلك بسبب هذا الفصل التعسفى بين الأخلاق والسياسة.
وفى تاريخنا العربى أبرز المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون كيف أن الدول قامت على العصبية والغلبة وليس على مقدار ممارسة المبادئ الأخلاقية فى الحكم.
إذن نحن أمام موضوع متجذر فى التاريخ وله انعكاسات سلبية على الحاضر حتى فى المجتمعات المتقدمة فى أنظمة حكمها. لكن فى الوقت الذى توجد فى المجتمعات المتقدمة تلك فلسفتان، الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية، تتحاوران حول هذا الموضوع، فإن هذا الموضوع يبقى عندنا مطروحا على استحياء. ولذلك تبقى الكثير من الأسئلة بحاجة لإجابة.
مثلا، إلى أى مدى يمكن السماح لأن تصبح الغاية تبرر الوسيلة فى الحياة العامة؟ إذ إن هذا السؤال توجب طرحه ممارسات يومية غير أخلاقية فى الحياة العربية. فممارسة السجن التعسفى، ثم تعريض السجين للتعذيب المبرمج، هل يمكن أن تبرره غاية استتباب الأمن ومحاربة الإرهاب؟ ألا توجد بدائل لتلك الوسائل البشعة تنسجم مع القيم الأخلاقية الإنسانية ومع القيم الحقوقية؟
مثلا آخر، هل أن غاية نبيلة من مثل التنمية الاقتصادية تبرر تدمير البيئة وبالتالى تحرم الأجيال القادمة من العيش فى بيئة متوازنة وصحية؟
مثال آخر، هل أنه عندما يسرق أحدهم فردا آخر نعتبر السرقة موضوعا أخلاقيا بينما إذا شرع نظام حكم أو برلمان قانونا يؤدى إلى سرقة الملايين من الناس وافقارهم فإن ذلك يعتبر قضية سياسية لا دخل لها بالقيم الأخلاقية؟
من هنا فإن الربط التام غير المتراخى بين الأخلاق والسياسة قد أصبح قضية القضايا. فليس بكاف أن يكون السياسى كفؤا وعبقريا فى اقتراح الحلول من خلال اتباع الأنظمة، حتى ولو كن ذلك على حساب القيم الأخلاقية.
***
والحكم على الحاكم، حتى ولو كان هو كشخص إنسان طيب القلب وغير عدوانى ورفيع الأخلاق، يجب أن يعتمد على مقدار احتكام ذلك الحاكم للفضائل الأخلاقية فى ممارسته للحكم وفى القرارات التى يتخذها وفى السياسات التى يتبناها. بمعنى آخر مقدار ما يساهم ذلك الحاكم فى جعل المجتمع مجتمعا أخلاقيا وفى بناء دولة الأخلاق.
عند ذاك، عندما تكون أخلاقية الدولة مساوية فى أهميتها لأخلاقية الأفراد، ويكون ذلك متجذرا فى وعى الناس ويستعملونه فى حكمهم على مؤسسات الحكم ومؤسسات التشريع والأحزاب، عند ذاك فقط ستصبح قيم العدالة والمساواة فى المواطنة والحرية المسئولة والكرامة الإنسانية.. ستكون تلك القيم ومدى تطبيقها فى صلب الحياة السياسية وفى صلب تكوين ذهنية الإنسان السياسى العربى.
وسيساهم حل إشكالية الأخلاق فى السياسة فى حل كل الإشكاليات الأخرى التى نعتبرها أسبابا رئيسية لدخول الأرض العربية فى الجحيم الذى تعيشه الآن.