بعد أكثر من أسبوع على بدء الغزو الروسى لأوكرانيا، يتضح أكثر وأكثر أهداف الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين وراء قرار الحرب.
ترى دوائر الفكر الأمريكية والغربية أن اتجاه أوكرانيا تجاه نظام حكم ديمقراطى ليبرالى يقوم على التعددية السياسية والحزبية والانتخابات الحرة الدورية هو السبب الحقيقى وراء غضب بوتين من جارته الغربية ورئيسها فولوديمير زيلينسكى.
وبالفعل طالبت أوكرانيا أن تصبح دولة غربية عن طريق انضمامها للاتحاد الأوروبى، وهى الرغبة التى يدعمها أكثر من 90% من الشعب الأوكرانى، وأن تنضم كذلك لحلف الناتو، وهى الرغبة التى يدعمها 62% من الشعب الأوكرانى. ووقع الرئيس الأوكرانى طلبا رسميا بالانضمام للاتحاد الأوروبى، وطلب السماح لأوكرانيا بالحصول على العضوية على الفور بموجب إجراء خاص، لأنها تدافع عن نفسها فى مواجهة «غزو القوات الروسية».
لكن تختلف الصورة تماما فى موسكو، إذ قدمت روسيا بعد بدء المعارك والاقتراب من السيطرة على العاصمة كييف عدة طلبات قبل وقف القتال. وطبقا لبيان صدر عن الكرملين تتضمن المطالب «الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، وتطهير الدولة الأوكرانية من النزعة العسكرية والنازية. وضمان وضع أوكرانيا المحايد، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار المصالح المشروعة لروسيا فى مجال الأمن».
• • •
يدفع الجدل حول دوافع الموقف الروسى إلى سجال أمريكى صاخب حول شخصية الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وسط اجتهادات تحاول فك طلاسم شخصية زعيم يحكم روسيا منذ بداية القرن الـ 21 وخطط للبقاء كرئيس بصورة دستورية حتى وفاته.
ولا تكتفى الكثير من البرامج التلفزيونية والتقارير الإخبارية بشيطنة الرئيس الروسى، بل يتمادى بعضها ليصف بوتين بأنه يعانى من عزلة ووحدة غير مسبوقة بسبب فيروس كوفيد ــ 19. وصف مسئولون كبار سابقون بوتين بأنه شخصية خجولة لديها شكوك فى كل المحيطين به حتى من كبار مساعديه ممن عملوا معه لسنوات طويلة، فى حين ذهب آخرون للادعاء بأن نشأة بوتين منذ مولده عام 1952 جعلته يؤمن بقوة بالاتحاد السوفياتى كفكرة وقيمة ومكانة فقدتها روسيا بعد انهياره عام 1990.
وقبل شهور وفى حوار تلفزيونى، اختزل الرئيس الأمريكى جو بايدن شخصية بوتين فى كلمة واحدة ونعته «بالقاتل»، فى حين وصفه الرئيس الفنلندى السابق مؤخرا بأنه أصبح شخصية متوترة غاضبة تغيب عنها الحكمة. أما الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فقد ذكر عقب لقائه به الأسبوع الماضى أن بوتين تغيّر كثيرا وأصبح أكثر توترا.
وتدل التقديرات السابقة على سذاجة الرؤية الأمريكية لشخصية بوتين، إذ يتم وضعه مرة بعد أخرى فى قوالب سابقة التجهيز، مع تجاهل متكرر للعوامل الموضوعية والأحداث والتطورات التاريخية، وأثرها على سلوكه وقراراته.
• • •
يرفض البروفيسور الشهير جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى جامعة شيكاغو، التقديرات السطحية السابقة، ويفضل أن يفهم سلوك الرئيس بوتين فى ضوء ما يحيط به من أحداث وتطورات تاريخية.
ويؤكد ميرشايمر أنه إذا رغبنا فى فهم شخصية وتصرفات وقرارات الرئيس الروسى، فعلينا فهم كيف ينظر بوتين للعالم كما هو من حوله.
يرى بوتين، وهو الابن البار لجهاز الاستخبارات السوفياتى السابق «كيه جى بى» (KGB)، أن العالم الغربى له زعيم واحد هو الولايات المتحدة، ويؤمن بأن واشنطن، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين، تنظر لروسيا بوصفها خطرا وعدوا لا يمكن تجاهله.
وطبقا لرؤية ميرشايمر، تحكم حسابات بوتين نظرة ثلاثية الأبعاد متكاملة ومترابطة، يبدأ أولها بفكرة توسع حلف شمال الأطلسى «ناتو» (NATO) وامتداده شرقا فى اتجاه حدود بلاده، وثانيها توسع وتمدد الاتحاد الأوروبى، وآخرها التبشير بحتمية تحقيق الديمقراطية الليبرالية على النسق الغربى فى كل دول القارة الأوروبية.
من هنا يؤمن بوتين يقينا بأن هدف إسقاط نظام الحكم المركزى القوى فى موسكو يبقى المحرك الأساسى لكل السياسات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة فى أوائل تسعينيات القرن الماضى.
وبخصوص توسع حلف الناتو وتمدده شرقا، يؤمن بوتين بأن الغرب خالف تعهداته بعدم التمدد شرقا «ولا لبوصة واحدة» كما جاء على لسان وزير الخارجية السابق جيمس بيكر فى بداية تسعينيات القرن الماضى. ويؤمن بوتين بأن واشنطن استغلت ضعف بلاده وحالة الفوضى التى ضربتها فى بداية القرن الـ21، ووسعت حلف الناتو لدرجة ضم جمهوريات سوفياتية سابقة ودول من أوروبا الشرقية يجمعها بروسيا حدود طويلة مثل بولندا.
• • •
يرى بوتين أن الغرب تجاهل منذ عام 2008، بعد تبنيه سياسة الباب المفتوح لتوسيع حلف الناتو بما يشمل أوكرانيا وجورجيا، كل المخاوف الروسية من وصول الحلف لحدودها القريبة سواء شرقا فى أوكرانيا أو جنوبا فى جورجيا.
من ناحية ثانية، يؤمن بوتين بأن تمدد الاتحاد الأوروبى بما يشمل مظلة اقتصادية مالية جمركية واحدة تستثنى منها روسيا بمثابة خطوة عدائية أخرى من الغرب.
ومن ناحية ثالثة، يرى بوتين أن الدعوات الأمريكية لدعم وتمويل عمليات الانتقال الديمقراطى فى دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة تمثل تهديدا كبيرا للدولة الروسية القوية والمركزية، وبأن هدفها فى النهاية إسقاط نظام الحكم فى موسكو، واستبداله بنظام صديق لواشنطن والغرب.
واعتبر بوتين أن مؤتمر الديمقراطية الذى استضافته إدارة بايدن فى ديسمبر الماضى كان بمثابة إعادة تقسيم أمريكى للعالم وعودة لمناخ الحرب الباردة وخطوة عدائية تضع واشنطن موسكو وبكين فى جانب آخر.
• • •
تجاهل الغرب وأمريكا مخاوف بوتين منذ 2014، على الرغم من سقوط ما يقرب من 14 ألف قتيل أوكرانى فى معارك بين مناطق أوكرانيا الشرقية وحكومة كييف لم يرض الغرب بمنح أوكرانيا صفة الحياد لتصبح منطقة عازلة محايدة بين حلف الناتو وروسيا، فما كان من بوتين إلا أن استخدم كل أدواته المتاحة لتغيير واقع لا يرضيه على الأرض. وبادر بوتين بالعدوان على أوكرانيا، وهو ما يتسبب فى قتل الآلاف وتشريد الملايين، ويؤمن بوتين أن هذه اللغة للأسف التى يسهل على الجميع فهمها.