هبَّت شعوب الهند هبَّة رجل واحد أو انتفضت انتفاضة امرأة واحدة احتجاجا على تعليق ورد الأسبوع الماضى على لسان أحد المذيعين فى فيلم وثائقى أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية. وصف المذيع مهرجان هولى المعروف أيضا بمهرجان الألوان الذى تحتفل به الهند كل عام بالقذارة. وقد طالبت الجالية الهندية المقيمة فى ولاية يوتا بالولايات المتحدة مدير هيئة الإذاعة البريطانية بتقديم اعتذار مناسب لمليار هندوسى فى العالم.
هولى هو مهرجان الربيع، يبدأ قبل عشرة أيام من اكتمال القمر بدرا فى شهر فالجونا Phalguna (شهر مارس من كل عام)، وكغيره من المهرجانات والكرنفالات التى تحييها الشعوب يعود أصله إلى ديانة سادت فى الهند فى عصر من عصورها القديمة.
يحتفل الهنود فى مهرجان هولى بإشعال حلقات نار لحرق الشياطين والشرور. فقد أحرقت نارا مماثلة الشريرة بوتانا التى حاولت قتل الإله كريشنا عندما كان طفلا بإرضاعه حليبا مسموما. بوتانا تمثل لدى الهندوس الشتاء الذى يوشك أن يرحل ليحل محله الربيع والدفء والحب.
تقول الأسطورة إنه فى مثل هذا اليوم قبل آلاف السنين أطلق إله الحب كوموديفو سهم الحب نحو قلب الإله شيفا ليحثه على تركيز اهتمامه فى أحوال الناس، وهو اليوم الذى رش فيه الإله العاشق كريشنا محبوبته «راضا» بالألوان والزهور، وهو ما يفعله الشباب، بنات وصبيان، على امتداد المهرجان. حضرت واحدا من أعياد هولى ورأيت مدنا مزدانة بالزهور والأضواء والناس تتقاذف فيما بينها بكرات محشوة بسوائل زاهية الألوان. ينتهى اليوم فتكاد لا تتعرف على هوية أحد من كثرة الألوان التى صبغت وجهه وشعره وثيابه. ولا أبالغ إن وصفت حال الناس فى الشوارع وفى بيوتهم بعد عودتهم بأنها أقرب شىء ممكن إلى حال مَنْ خلع عن نفسه وروحه شرورَ وتجاوزات وأخطاء وخطايا عامٍ كامل واستعد للقاء عام جديد وهو مثله طاهر ونظيف وجديد.
●●●
الكثيرون فى عالمنا العربى يعرفون عن كرنفالات أخرى أكثر مما يعرفون عن كرنفال أو مهرجان هولى الهندوسى. يسمعون أو يعرفون عن كرنفال فينسيا، المدينة الايطالية الساحرة. يعود تاريخ كرنفال البندقية إلى عام 1162 حين انتصرت مدينة Serenissima، الاسم الأسبق لفينيسيا، على جيوش بطريرك مدينة آكيلا، واجتمع الشعب فى ساحة سان ماركو ليحتفل بالنصر حتى الصباح. وقد ظل أهل فينسيا منذ ذلك الحين يحتفلون كل عام بذكرى هذا النصر حتى قررت حكومة روما فى عام 1979 تقديم الدعم المادى والمعنوى لمنظمى هذا الكرنفال بهدف إنعاش اقتصاد المدينة المهددة دوما بالغرق. وبالفعل انتعش الكرنفال وكرنفالات أخرى تحييها المدينة حتى صار يدخل المدينة يوميا ثلاثة ملايين سائح لهذا الغرض وحده. ويشتهر كرنفال فينسيا بالأقنعة التى أبدع أهل البندقية فى صنعها عبر القرون. يحكى المؤرخون أن الهدف من ارتدائها فى العصور الوسطى هو إخفاء شخصية لابسى الأقنعة وبخاصة أعضاء العائلات التجارية الكبيرة ورجال الدين الذين كانوا يقيمون علاقات عاطفية.
إيطاليا هى بحق بلد الكرنفالات، وإن كان أشهرها كرنفال البندقية، ففى كرنفال مدينة إفريا Ivrea بإقليم بيدمونت يحتفل سكان المدينة كل عام بذكرى انتصار الفلاحين على النبلاء فى القرون الوسطى بإلقاء ثمرات البرتقال على وجهاء المدينة وأغنيائها والمسئولين فيها. وفى مدينة فياريجيو Viareggio يقيم أهل المدينة مهرجانا فى الشتاء للإشادة بقوة عزيمتهم فى تحدى البرد القارس وهزيمة الكآبة التى يتسبب فيها الجو المعتم والملبد بالسحب والغيوم.
●●●
يزعم أهل إنجلترا أن لندن تقيم أفضل «كرنفال شارع» فى القارة الأوروبية، وهو الكرنفال الذى يقام كل عام منذ 1966 فى حى Notting Hill. يعتمد الكرنفال على مسيرة الرقص وعروض الأزياء والموسيقى وعربات الزهور والألوان التى تبدأ صباح الأحد الأخير من شهر أغسطس المعروف بيوم الأطفال، وتنتهى مساء الاثنين، المعروف بيوم الكبار، حيث يجرى تقديم جوائز للفرق الموسيقية وعارضات الأزياء الشعبية. يشترك فى الإعداد للمسيرة وينظمها نحو أربعين ألف متطوعة ومتطوع أكثرهم من المنحدرين من أصول كاريبية.، ويدخل لندن خلالها ملايين عديدة من السياح من داخل المملكة المتحدة وأنحاء أوروبا.
●●●
أما الكرنفال ذو السمعة العالمية فهو بدون شك كرنفال ريو دى جانيرو، ولعله الكرنفال الذى استطاع أن يقيم «صناعة» تسمى باسمه، تعرف بصناعة كرنفال ريو، تمولها شركات ضخمة وتديرها عقول إدارية مميزة. هناك مدارس السامبا التى تعمل طوال العام على إعداد رقصات وملابس رقص جديدة قبل أن تتولى إدارة كرنفالى ريو وسان باولو، وتشترك معها جمعيات أهلية وكنائس ومعاهد دينية، ويستمر الكرنفال ستة أيام تستقبل مدينة ريو وحدها خلالها 70٪ من مجموعة السياح الذين يأتون إلى البرازيل خلال العام.
●●●
يقال إن كلمة كرنفال Carnival، مشتقة فيما يبدو من تقليد الامتناع عن أكل اللحم، أو استبعاده Carnelavare خلال الأيام الأربعين السابقة على عيد الفصح. وفى واقع الأمر تقام غالبية الكرنفالات فى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا خلال هذه الفترة، وتقام فى مناطق أخرى فى مناسبات غير بعيدة الصلة بالديانة السائدة أو أساطير نابعة من ديانات ومعتقدات قديمة.
يذكرنى هذا بمصر حين كان شعبها يعرف كيف يعيش ويقيم مهرجانات وكرنفالات، بعضها ارتبط بمناسبات دينية كرحلة المحمل حين كان الناس يرتدون لها أفخر ثيابهم وتشارك المدارس بطلبتها فى المسيرة وتخرج العائلات لتحتفل مع الطرق الصوفية فى صحراء العباسية بإنشاد الأناشيد وتناول أطايب الطعام. مهرجانات أخرى ارتبطت بتقاليد وأساطير مصرية قديمة مثل الاحتفال بعروس النيل حين كانت المراكب الشراعية الخارجة لتوها من عملية الطلاء تمخر عباب النيل بالمئات تزينها الورود والزهور يقودها الموكب الرسمى المبحر فى عظمة ووقار فى اتجاه جزيرة الروضة.
●●●
كتب أحد المفكرين الكبار فى الهند يثنى على مهرجان هولى للألوان بقوله إن مثل هذه المهرجانات تحقق الاندماج بين الطبقات الاجتماعية، وتربط أهل الريف بالحضر، وتعمق فى الناس حب الوطن خاصة وأن معظمها يمجد من قريب أو بعيد فكرة الارتباط بالأرض والتراث الوطنى.
ويقول علماء اجتماع غربيون إن المهرجانات تجعل المفاهيم والطقوس الدينية جذابة للإنسان المتعلم. ويرى آخرون أنها تؤدى وظيفة حيوية لا نقدرها حق قدرها وهى أنها «تفك عقد» الناس. فالمعروف أن المشاركين فيها يتحررون من قيود كثيرة ويتخلون عن دواعى الانضباط وروتين الحياة اليومية، فضلا عن أن دراسات عديدة أثبتت أنها طاردة للكره والحقد وباعثة على الحب والتسامح وتساعد فى تحسين الذوق وتجدد طاقة الخلق والإبداع.
●●●
تعرفت منذ مدة على شاب برازيلى كان يصف كرنفال ريو بأنه المناسبة الوحيدة التى «تسمح لنا، كشعب، أن نمارس الجنون لأيام معدودة».
ما أحوجنا فى مصر إلى أيام معدودة نقضيها فى كرنفال أو مهرجان نمارس خلالها جنونا من نوع مختلف عن الجنون الذى نمارسه منذ شهور. نريد أن نمارس الجنون الذى يعيد إلينا بعضًا من الحب الذى فقدناه. نريد أن نعيش.