خصخصة الحروب - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 3:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خصخصة الحروب

نشر فى : الإثنين 3 يوليه 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الإثنين 3 يوليه 2023 - 7:25 م

قبل ما يربو على قرن خلا من الزمن، استلهم السوسيولوجى الألمانى الشهير، ماكس فيبر، من ركائز النظام الدولى الوستفالى؛ أطروحته المتعلقة بأن الدولة، دون سواها، تبقى صاحبة الحق الحصرى، والمطلق، فى احتكار شرعية استخدام القوة، ومباشرة الإرغام، وممارسة العنف المُقنن.
واقعيا، تضرب ظاهرة المرتزقة، أو «المقاتلين الأُجراء»، بجذورها الممتدة، فى عمق التاريخ البشرى. ففى غابر الأزمان، استخدم اليونانيون المقاتلين المأجورين، كما اعتمدت عليهم قرطاج فى حروبها ضد روما، فيما استعان بهم الصليبيون فى حملاتهم العسكرية ضد العرب والمسلمين، قبل ما ينيف على أحد عشر قرنا ميلاديا.
وفى حاضر أيامنا، يتصاعد دور المرتزقة، أو ما بات يعرف بـ«المتعاقدين العسكريين الخاصين»، الذين يقاتلون من أجل المال، غير مكترثين بمسببات الحروب، ولا أهدافها، أو عقائد المتقاتلين فيها. حتى امتلأت بهم ساحات الوغى، إما كمجندين مقاتلين، أو مكلفين بحماية الشخصيات العامة والأثرياء والأوليجارشيين، أو تأمين مراكز استراتيجية، كآبار النفط، والمناجم، والمجمعات الصناعية التابعة للشركات الكبرى، أو أمراء الحروب.
وأخيرا، يجرى توظيف المرتزقة من قبل الحكومات لأداء بعض المهام، التى ظلت قرونا، من صميم اختصاص الأجهزة الأمنية والجيوش النظامية، مثل توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية، ورؤساء الدول، وحسم النزاعات المسلحة والأزمات، وإجهاض محاولات التمرد، وقمع الحركات الاحتجاجية، وتدريب الجيوش الوليدة والأجهزة الأمنية الناشئة.
فى مسارح العمليات، قد تلجأ بعض الجيوش النظامية، للاعتماد على المرتزقة، ابتغاء تحقيق ما يعرف بـ«التكامل القتالى». بحيث يتصدى المقاتلون المأجورون لمهام الحروب غير المتناظرة؛ كمواجهات المدن والشوارع وحروب العصابات، التى يستعصى على الجيوش النظامية حسمها بسرعة وسهولة، وبأقل كلفة مادية وبشرية ممكنة. فبينما تعكف روسيا على توظيفهم فى حروب أوكرانيا منذ العام 2014؛ سبق للولايات المتحدة استخدامهم فى حربى العراق وأفغانستان، قبل عقدين مضيا. وخلال السنة المالية 2017، وجه البنتاجون 71% من موازنة العقود الفيدرالية، للشركات العسكرية الخاصة. وتوخيا منها لتوفير الأمن لسكان المستوطنات بالأراضى الفلسطينية المحتلة، تعاقدت السلطات الإسرائيلية مع شركة «الخدمات الأمنية متعددة الجنسيات». وبدورها، تستعين الشركات العابرة للقوميات، بالمقاتلين الأجراء. إذ أبرمت شركة «ديفينس سيستمز ليمتد»، عقودا مع شركات نفط كبرى مثل: «تكساكو»، و«شيفرون»، لحماية مشاريعها وبنيتها التحتية فى البلدان المضطربة أمنيا مثل أنجولا، ونيجيريا. كذلك، تستعين منظمة الأمم المتحدة، فى بعض مهامها وعملياتها الأمنية حول العالم، بالشركات العسكرية الخاصة، لاسيما شركة «الخدمات الأمنية متعددة الجنسيات».
برغم ما قد يتيحه لها من منافع ميدانية تكتيكية، ينطوى لجوء الدول والجيوش النظامية، إلى الاعتماد على المرتزقة، أو الشركات الأمنية الخاصة، على تداعيات استراتيجية بالغة الخطورة، لعل أبرزها:
تقويض المنظومات الأمنية الوطنية: فلقد أسهم انتشار المرتزقة والشركات الأمنية والدفاعية الخاصة، فى إعاقة تطور المنظومات الأمنية لدول عديدة. فحينما يُمنح عناصر تلك الفواعل العنيفة دون الدول، حق استخدام السلاح، بغير رقيب ولا حسيب، تتعاظم احتمالات ارتكابهم جرائم حرب، بل وانقلابهم على الجهة، التى يقاتلون لحسابها، أيا كانت. وما تمرد قائد «فاجنر» الروسية، على الكريملين، إبان حرب أوكرانيا، ببعيد. ومن شأن هكذا ممارسات، إرباك المؤسسات السياسية، واستنزاف المنظومات الأمنية.
ولقد حال انتشار تلك الفواعل المزعجة فى أفغانستان، على سبيل المثال، دون استكمال بناء منظومتها الأمنية، بعدما أفضى إلى تدهور القطاع الأمنى. الأمر الذى اضطر الرئيس الأفغانى الأسبق، حامد كرزاى، عام 2010، إلى حظر نشاط ثمانى شركات أمن خاصة، من أصل 54 شركة، كانت متعاقدة مع حكومة كابول، بينها «بلاك ووتر» الأمريكية. وفى القرن السادس عشر، ندد، ميكيافيللى، فى مؤلفه الأشهر «الأمير»، بهذه الظاهرة المقيتة، محذرا من ولاء المرتزقة للمال، دون غيره.
قبل انسحابها المربك من أفغانستان سنة 2021، كانت الولايات المتحدة قد أشرفت على تشكيل وتدريب قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، بكلفة ناهزت تسعين مليار دولار. غير أن جل الجنود والضباط الأفغان، الذين تم تدريبهم، اضطروا إلى قبول عروض بالتجنيد والقتال لدى روسيا وإيران، بعدما تخلى عنهم الأمريكيون وتركوهم فريسة لحكومة طالبان. وبحسب تقارير غربية، منح الكريملين أولئك المقاتلين الجنسية الروسية، وأتاح لهم فرصا للعيش الأفضل، مقابل القتال إلى جانب الجيش الروسى وقوات «فاجنر» فى أوكرانيا. فيما فر آلاف آخرون عقب الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، إلى إيران، خوفا من بطش حكومة طالبان. وقد تلقفتهم طهران، وزجت بهم فى صفوف ميليشياتها وأذرعها الولائية المسلحة، المنتشرة فى ربوع الإقليم.
تشويه العقائد القتالية للجيوش: يتحلى كل جيش نظامى وطنى محترف بعقيدة قتالية، تضم مجموعة الأفكار، والقيم، والمبادئ، التى تستهدف إرساء نظريات العلوم العسكرية وفن الحرب، لتحدد هياكل ومهام القوات المسلحة فى زمنى السلم والحرب، بما يكفل تحقيق الأهداف والمصالح الوطنية. بيد أن انتشار المرتزقة، والمتعاقدين العسكريين الخاصين، يطيح بهذه العقيدة العسكرية، مفسحا المجال لوضعية «القتال من أجل المال». دونما مراعاة لأية مبادئ إنسانية، أو قواعد قانونية، أو قيم أخلاقية.
أما بخصوص معايير التجنيد، فلم تعد الدول والشركات الأمنية والدفاعية توليها أدنى اهتمام، طمعا فى حشد أكبرعدد ممكن من المرتزقة بميادين القتال. فعلى سبيل المثال، وتحت وطأة الحاجة المتنامية لمزيد من المقاتلين الداعمين لروسيا فى الحرب الأوكرانية؛ تشير تقارير دولية إلى تقليص مجموعة «فاجنر»، معايير تجنيد مقاتليها الجدد، بغية تعويض الخسائر البشرية بين صفوف المقاتلين الموالين لروسيا. حتى أن المجموعة لم تتورع عن تجنيد عدد من نزلاء السجون الروسية، ممن أدينوا بارتكاب جرائم قتل واغتصاب وتطرف وإرهاب واتجار بالمخدرات، مع وعود بتخفيف محكومياتهم، أو العفوعنهم، عقب انتصارهم فى الحرب ونجاتهم من ويلاتها.
اقتراف خروقات وانتهاكات لحقوق الإنسان: برغم قسوتها، نالت الحروب نصيبها من القوانين وقواعد القانون الدولى الإنسانى، التى تنظم مجرياتها. بحيث يتم تحديد ما يمكن، وما لا يتعين فعله أثناء النزاع المسلح. وبينما تمثل اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية حجر الزاوية بهذا المضمار، يتضمن قانون الحرب، بوصفه أحد أفرع القانون الدولى العام، المبررات المعقولة لخوض الحروب؛ وحدود السلوك المقبول إبان المواجهات. ويوضح القانون الدولى الإنسانى، المعايير المتعلقة بقبول استسلام الجيوش ، ومعاملة أسرى الحروب، والضرورات العسكرية، وقانون التمييز، وقانون التناسب، وحظر استخدام أسلحة معينة، قد يتسبب استخدامها فى كوارث ومآسٍ إنسانية مزمنة. كما تراعى قوانين الحرب، وقواعد القانون الدولى، الفوارق ما بين المدنى والعسكرى، والصراع المسلح والحروب الدولية من جهة؛ وأحداث التمرد الداخلى، والحروب الأهلية، من جهة أخرى. وبناء عليه، يغدو حريا بكل دولة مسئولة، الاهتداء إلى التوصيف الدقيق للحالة الحربية؛ حتى يتسنى لها إدارتها، انطلاقا من القواعد والقوانين الدولية والمبادئ الإنسانية ذات الصلة.
ونظرا لعدم وجود قواعد قانونية ملزمة تحكم عملهم، لا يرعوى المرتزقة، عن ارتكاب الانتهاكات والتجاوزات أثناء الحروب. إما بحثا عن تسجيل انتصارات ميدانية لاسترضاء ممولهم، أو طمعا فى تحصيل مغانم شخصية، من خلال أعمال السلب والنهب. وإبان عهد الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، تعرضت شركة التعاقد العسكرى الأمريكى، «بلاك ووتر»، لعاصفة من الانتقادات الدولية، على خلفية جرائم حرب ارتكبها بعض مقاتليها داخل العراق. كان من أبرزها، فتح النارعشوائيا وسط أحد شوارع بغداد، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
تفرض هكذا خروفات، تحديات جمة أمام السلطات المعنية بإنفاذ القانون،عبر مباشرة التحقيق، والملاحقة، والعقاب. وذلك بخلاف القوات المسلحة النظامية، التى يخضع عناصرها للرقابة والمساءلة، استنادا إلى القوانين والقواعد العسكرية الحازمة. فى ضوء ذلك، تفاقمت، خلال الآونة الأخيرة، ظاهرة لجوء بعض الدول والحكومات إلى توظيف المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة، فى الأعمال المسلحة؛ هربا من تحمل أية مسئولية عن الانتهاكات أو جرائم الحرب، التى يتم ارتكابها خلال المواجهات.
انطلاقا مما ذكر آنفا، أيد وزير الخارجية البريطانى الأسبق، جاك سترو، طوفان المطالبات للمجتمع الدولى، بتحرك ناجز، لكبح جماح «تفاقم وحشية المرتزقة». وذلك من خلال التزام جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، التصديق على الاتفاقية، التى اعتمدتها جمعيتها العامة سنة 1989، بشأن حظر ومناهضة تجنيد، وتمويل، وتدريب، واستخدام المرتزقة. فبغض النظر عن آليات توظيفهم، أو طبيعة الأنشطة التى يمارسونها، أو ما يبتكرونه من حيل، بغية اكتساب بعض مظاهر الشرعية. يبقى المرتزقة مصدر تهديد مباشر وخطير، للسلم والأمن الدوليين، كما لسيادة الدول وتماسك منظوماتها الأمنية والعسكرية.

التعليقات