أخشى أن تكون إدارة الرئيس جو بايدن تجاوزت المدى فى استمرار الاستهانة بذكاء كل البشر الآخرين، بعد أن تجاوزت حدود الفشل فى إدارة مهامها والخروج من أزمات الولايات المتحدة ووقف انحدار سمعتها ومكانتها الدولية.
• • •
أولا: ليس بعيدا عن أنظارنا وأسماعنا الإخفاق فى إخراج قمة ناجحة لدول الأمريكيتين. عقدت القمة فى مدينة لوس انجلوس، أى فى مقر الدولة القائد وتغيب عن الحضور رؤساء دول لاتينية احتجاجا على مقاطعة الولايات المتحدة لفنزويلا وكوبا ونيكاراجوا وتعبيرا عن رفض استهانة واشنطن المتكررة لإرادة ومصالح حلفائها فى القارة الجنوبية. حاولت واشنطن الحصول على التزام الدول الأعضاء فى منظمة الدول الأمريكية لوقف تمدد النفوذ الصينى فيها، وفشلت.
ثانيا: ليس بعيدا أيضا منظر الخروج الأمريكى الأخير من أفغانستان بعد احتلال العشرين عام. مرة أخرى، وفى أقل من نصف قرن تخرج أمريكا شبه منهزمة، أو بالفعل منهزمة، من حرب واحتلال فى آسيا. الخروج الأسبق وكان من فيتنام خلف علامات لا تنسى على جسم جيل من شباب أمريكا وبخاصة بين شباب الجامعات والمجندين للحرب. خلف أيضا للرأى العام العالمى صورا متحركة لضباط ودبلوماسيين يحاولون التعلق بآخر طائرة تغادر سايجون قبل وصول قوات الفيتكونج المنتصرة. صور لا تختلف كثيرا فى تأثيرها الجارح على الرأى العام العالمى عن صور ألوف المتعلقين بأجنحة طائرات تستعد للإقلاع من مطار كابول فور الإعلان غير الناضج الصادر عن إدارة الرئيس بايدن عن نية الانسحاب من أفغانستان.
ثالثا: لا أجد غير كلمة الفشل وصفا مناسبا لآخر مسيرتين صراعيتين مع روسيا والصين. للحق أعترف بأن إدارة دونالد ترامب هى التى أطلقت مسيرة منهما وجاء جو بايدن ليجمع المسيرتين فى حملة تعبئة واحدة. لست وحدى من يرى الفشل صاعقا فى إدارة الحرب الباردة حتى الآن مع الدولتين، فكثيرون فى أمريكا ذاتها وأكثر منهم فى دول أوروبا الحليفة وأكثر من كل هؤلاء فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية سبقونى إلى إصدار هذا الحكم.
رابعا: أعترف هنا أننى كنت بين من فوجئوا بتواضع الأعداد والتنفيذ لزيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط والتعامل مع كثير من تفاصيل هذه الزيارة لإقليم لعله من أوائل الأقاليم الخارجية التى تعاملت معها بكثافة الولايات المتحدة كقوة ناشئة فور حصولها على الاستقلال، ناهيك عن حجم المشكلات التى تورطت فيها وما حصلت عليه من ثروات هذا الإقليم بالعدل أو بالفرض والقوة أو تحت عنوان التحالفات والحماية. كان الفشل، وبالحق والخبرة، مبهرا عند التعامل مع تناقضات القيم والواقع، أو القيم والمصلحة. لهذا الفشل بالتحديد آثاره «التسونامية» على مختلف علاقات أمريكا بدول العالم النامى، ونرى بعض هذه الآثار وهى تنحت فى صلب صراع أمريكا مع روسيا من جهة ومع الصين من جهة أخرى. رأينا جوانب أخرى للفشل فى المواقف الأمريكية من تطورات قضية فلسطين. شهدت زورا حين رفضت شهادة الحق فى التحقيق حول مقتل شيرين أبو عاقلة وما تزال على شهادتها رغم حاجتها الماسة إلى عقل عربى جديد متفهم ومستنير. وسمعنا الرئيس الأمريكى وهو السيناتور الخبير فى شئون المنطقة يعرف نفسه كونه صهيونيا. أى ذكاء هذا تمتاز به هيئة استشارية حتى أقنعته بفائدة مثل هذا الترشيح فى هذا المكان. لا يبرئها حاجتها إلى تجديد انتخابه رئيسا وفوز عدد أكبر من الديمقراطيين فى انتخابات النصف. فى النهاية سمعت أحد مودعيه من العرب يقول فى لهجة إشفاق «على الأقل كان يمكن أن نكون أقل عنفا فى رفض زيادة إنتاج النفط العربى».
خامسا: أغامر فأعود إلى بعض أول خياراته السياسية وفى مقدمتها اختياره سيدة بخبرة قليلة أو حتى نادرة فى السياسة عموما داخلية أو خارجية لتنزل على ورقته فى دور نائبة رئيس جمهورية. هذه السيدة يتحدثون عنها الآن بالخليفة المحتوم للرئيس بايدن فى حال مرضه أو رحيله علما بأنه لم تثبت نجاحا فى أى مهمة رسمية أوكلت إليها ومنها مسألة الهجرة من دول أمريكا الوسطى أو عبرها. ولم تكسب عند عامة الشعب شعبية تناسب دورها المحتمل القيام به كرئيس للجمهورية الأمريكية. كان الرئيس يعلم حق العلم، وإن أنكر، حدود قدرته على الاستمرار فى منصبه لفترة ثانية ولم يكن يعلم فيما يبدو حدود قدراتها على الفوز بترشيح الحزب لها فى انتخابات رئاسية قادمة بخلو المنصب من الرئيس القائم.
سادسا: لن أتجاوز فأحكم على كفاءة وقدرة أداء جهاز المستشارين المحيطين بالرئيس جو بايدن. ولكنى ومن على البعد أسمح لنفسى بأن أحكم على إنجازات العهد من واقع التقارير الموضوعية وليس اعتمادا على البيانات والتصريحات. أشهد مع آخرين احترم سعة اطلاعهم وقدراتهم فى تخصصاتهم، أشهد بأن هذا العهد كعهد سابقه لم ينجز اختراقا ملموسا فى استعادة مكانة أمريكا الدولية أو فى تعزيز لحمة الحلف الغربى أو فى العودة الصحيحة إلى الشرق الأوسط أو فى تحقيق الفوز على روسيا والصين فى الحرب الباردة التى اختار إشعالها والسير على هديها الرئيسان ترامب وبايدن. أشهد أيضا بأن عهد بايدن كعهد سابقه أعلن النية فى استعادة أمريكا إلى مكانها ومكانتها كقوة عظمى وأشهد كما يشهد كل مدقق حريص ومتابع عن بعد أن الانحدار الأمريكى لم يتوقف فى العهدين، بل العكس هو الحاصل حسب اجتهاداتنا وحسب استطلاعات الرأى المتتالية.
• • •
على ضوء هذا التحليل المنقوص بطبيعة ظروف النشر وضغط الوقت أجد إلزاما أن أعترف أننى وجدت صعوبة كبيرة فى فهم دوافع السيدة نانسى بيلوسى للقيام برحلة فى آسيا تتوقف فيها لزيارة تايوان. الواقع يقول إن العلاقات الصينية الأمريكية تقترب جدا من وضع الأزمة الحادة، وأنه لم يعد خافيا على أحد أن أمريكا تدفع نحو تصعيد الأزمة إلى حدود صارت تخضع لتخمينات خطيرة. الواقع يقول أيضا إن أمريكا لم تحقق نصرا مبينا فى أزمتها مع روسيا، وإن مختلف التحليلات تميل إلى اعتبار روسيا وقد توسعت على الأرض فى أوكرانيا وتوسعت وهو الأمر الهام جدا فى نفوذها أو مكانتها فى كثير من دول العالم النامى. الواقع يعترف أيضا بأن حلفاء
أمريكا فى أوروبا وخارجها يعانون عواقب العقوبات التى كان هدفها فى الأصل روسيا، وأن دولا كثيرة فى أوروبا وآسيا تعبر الآن عن خشيتها من نوايا معلنة أو مكتومة لدى كل من اليابان وألمانيا للانطلاق بكل الإمكانات للتسلح حتى النووى منه.
لا أفهم، وأتساءل كيف يمكن أن يستفيد حلفاء أمريكا وأصدقاؤها وتستفيد المصالح القومية الأمريكية ويستفيد السلم العالمى من النقاش الهزلى الدائر فى واشنطن الآن بين السيدة بيلوسى من جانب والسيد ترامب ومستشاريه من جانب آخر حول رغبة بيلوسى زيارة تايوان ونصيحة السيد بايدن تأجيلها أو الانصراف عنها وما يبدو تلميحا من المؤسسة العسكرية من جانب ثالث بعدم الاعتراض على الرحلة بل والاستعداد لحماية السيدة نانسى بكل ما يتوفر لدى أمريكا من إمكانات. أحاول أن أفهم.