ليس من شك أن ما كانت تدعيه الولايات المتحدة من هيمنة على النظام العالمى قد سقط، وليس من شك أيضًا أن الإدارة الأمريكية ما زالت تتصرف كما لو أنها القطب الأوحد فى هذا العالم. الهيمنة الأمريكية كانت تستند إلى التفاخر بنموذج سياسى واقتصادى يصفه الكتاب الأمريكيون بأنه نموذج ديمقراطى مقترن بنظام السوق المفتوحة والقائمة على التنافس، وهو النموذج التى ادعت إدارات أمريكية متعاقبة أنه الأصلح لكل دول العالم، والذى ينبغى أن تتبناه، وإن لم تفلح فى ذلك فبعض الإدارات الأمريكية خصوصا إدارة جورج بوش الابن سعت لفرضه بالقوة من خلال تغيير النظم القائمة فى البلاد التى كانت توصف بأنها محور الشر. استمرار القول إن النظام السياسى الأمريكى نظام ديمقراطى يستند فقط إلى معايير شكلية وسطحية للديمقراطية وكأن مجرد إجراء الانتخابات ووجود حزبين كبيرين وتعددية إعلامية كافٍ لوصف أى نظام بالديمقراطية مع تجاهل تام لكون وعى المواطنين تشكله أقلية من أصحاب الثروات الذين يملكون أدوات الإعلام الكبرى من صحافة وشبكات تليفزيونية بل حتى قنوات التواصل الاجتماعى. أما عن الادعاء بأن النظام الاقتصادى الأمريكى يقوم على حرية التجارة والمنافسة فهو صحيح فقط إذا كانت المنافسة لصالح الاقتصاد الأمريكى، أما إذا كان الانفتاح على السوق العالمية يضر بمصالح بعض القطاعات فى الاقتصاد الأمريكى أو يؤدى إلى صعود دول أخرى فى الاقتصاد العالمى عندئذ يتم الخروج على قواعد المنافسة وحرية التجارة. وهكذا تفرض الولايات المتحدة عقوبات شديدة على الصين، لأنها تنجح فى الدخول إلى السوق الأمريكية بأسعار منافسة، كما أن صعودها فى الاقتصاد العالمى يهدد مكانة الولايات المتحدة فيه. وآخر الادعاءات الزائفة للولايات المتحدة بأنها تدعو إلى نظام دولى يقوم على احترام القواعد أصبح موضع السخرية ليس فقط لاعتراضها على قرارات الجمعية العامة بخصوص وقف العدوان الإسرائيلى على غزة والضفة الغربية بل بوقوفها إلى جانب إسرائيل فى محكمة العدل الدولية المتهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى الأراضى الفلسطينية وبضغوطها على المحكمة الجنائية الدولية حتى لا تصدر أمرًا بالقبض على رئيس وزراء إسرائيل ووزير دفاعها لقيادتهما حملة الإبادة الجماعية هذه.
وهكذا كما يقولون أصبح الملك عاريًا بعد أن تكشف للعالم كله أن النظام الأمريكى ليس ديمقراطيًا، وأن اقتصادها ليس سوقًا حرة، وأنها لا تقبل الالتزام بقواعد المنافسة ولا بنظام دولى يقوم على القواعد. هذه الاكتشافات ليست حكرًا على الأكاديميين ومنظرى العلوم السياسية، لكن خروج الولايات المتحدة على الالتزام بقواعد النظام الدولى الذى تدعى الدفاع عنها ولد مقاومة على صعيد العالم للإدارات الأمريكية. سكتت الولايات المتحدة عن مناشدة القادة الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وحلف وارسو ألا يمتد حلف الأطلنطى إلى دول شرق أوروبا الأعضاء السابقين فى حلف وارسو، بل شجعت هذه الدول على الانضمام لحلف الأطلنطى، ومنها بولندا ودول البلطيق والمجاورة للحدود الروسية، ب ساهمت فى إسقاط رئيس منتخب فى أوكرانيا ليحل محله رئيس يسعى للانضمام لحلف الأطلنطى، وسكتت عن ذلك متغافلة عمدًا عن الروابط السابقة بين الشعب الأوكرانى والشعب الروسى باعتبارهما من الشعوب السلافية، وهو ما اعتبره الروس بحق تهديدا لأمنهم الوطنى عندما تتمركز قوات حلف الأطلنطى على حدودهم، ورغم أن الإدارات الأمريكية تلتزم رسميا بسياسة صين واحدة، فإنها تبذل كل مساعيها للإبقاء على تايوان دولة مستقلة وليست جزءًا من إقليم الصين الكبرى تاريخيًا، وعلى الرغم من وجود قواتها فى كوريا الجنوبية إلا أنها تعترض على امتلاك كوريا الشمالية لسلاح نووى وصواريخ تشكل رادعا عن أى اعتداء على حدودها، وعلى الرغم من سكوتها عن امتلاك إسرائيل قنابل نووية فإنها تقاوم تطوير إيران لقدرات للاستخدام السلمى للطاقة النووية. لكل هذه الأسباب برز على سطح المسرح العالمى ما يمكن تسميته بمحور مقاومة للقطب الأمريكى، ونجح هذا المحور فى الاستمرار فى تحديه للقطب الأمريكى، وتمهيد الطريق لتحول النظام العالمى لنظام متعدد الأقطاب تشارك الولايات المتحدة، إن شاءت فى قيادة هذا النظام وفقًا لقواعد مقبولة للجميع، وإلا يستمر العالم يعانى من توتر حاد بين القوى القائدة فيه والذى لا يستبعد بعض المراقبين أن ينقلب إلى حرب بين الولايات المتحدة والصين أو بين دول حلف الأطلنطى وروسيا.
عناصر القوة فى محور المقاومة على الصعيد الدولى:
يتألف محور مقاومة القطب الأمريكى على الصعيد العالمى من قوى كبرى مثل الصين والاتحاد الروسى وقوى إقليمية، مثل كوريا الشمالية وإيران، وهناك بكل تأكيد قوى أخرى تختلف فى سياساتها عما تريده الإدارات الأمريكية، مثل كوبا وفنزويلا فى أمريكا اللاتينية، لكن تلك القوى الأربع هى التى تناصبها الولايات المتحدة العداء، وهى التى صمدت على الرغم من كل الضغوط الأمريكية. ونظرًا لأن السياسات الأمريكية فى العالم العربى تتجاهل تماما الخطر الذى تمثله سياسات إسرائيل على أمن الشعب الفلسطينى وأمن كل الدول المجاورة لها بما فى ذلك تلك التى وقعت معها معاهدات سلام، فمن المفيد للشعوب العربية أن تعرف لماذا صمدت هذه الدول، وما إذا كان يمكن لمحور مقاومة عربى أن يستفيد من الدروس المستمدة من صمودها. ونظرًا لأن مساحة هذا المقال لا تسمح بتفصيل كبير فيمكن القول إن سبب نجاح هذه الدول فى صمودها أمام الولايات المتحدة هو امتلاكها جميعًا قوة ردع فى مواجهة الولايات المتحدة. روسيا تملك صواريخ عابرة للقارات وأقمار صناعية وأسلحة نووية يمكن نظريًا فى حالة الحرب أن تستخدمها فى مواجهة الولايات المتحدة و/ أو حلفائها بل هدد المسئولون الروس بما فى ذلك كل من الرئيس الروسى ووزير خارجيته بإمكان تحول الصراع الجارى فى أوكرانيا إلى حرب نووية إذا ما تمادت دول الأطلنطى فى دعم الجيش الأوكرانى بأسلحة تمكنه من إلحاق مزيد من الضرر بروسيا. وتملك الصين القدرة التنافسية فى شركاتها التى اكتسبت مواقع متقدمة حتى فى نظم الاتصال فى كبرى دول حلف الأطلنطى، وسحبت السوق من بعض شبكات التواصل الاجتماعى التى يقبل عليها الشباب فى الولايات المتحدة ذاتها، وفوق ذلك لا تتردد الصين فى إظهار قدرتها على غزو تايوان حليفة الولايات المتحدة من خلال مناوراتها الجوية حول الفضاء الجوى التايوانى، كما تملك القوات المسلحة الصينية من أدوات الحرب النووية بل باستخدام الذكاء الاصطناعى ما يجعل المسئولين الأمريكيين ومراكز أبحاثهم تخشى كثيرًا أن يتحول التنافس الاقتصادى بين البلدين إلى صراع مسلح. وتستطيع كوريا الشمالية إلحاق الضرر ليس فقط بكوريا الجنوبية واليابان حليفى الولايات المتحدة بل وبالقوات الأمريكية المتمركزة فى كل من البلدين، وأخيرا فقدرة إيران على إلحاق الضر بالقوات الأمريكية فى منطقة الخليج العربى وبرفع أسعار النفط عندما تغلق مضيق هرمز يجعل الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل حتى لا يتحول صراعها مع إيران إلى حرب إقليمية. لكن كيف امتلك محور المقاومة المعادى للولايات المتحدة قدرات الردع هذه خصوصًا فى المجال العسكرى. لا شك أن سر ذلك هو فى التقدم العلمى والتكنولوجى فى كل هذه الدول. ربما لم ينعكس هذا التقدم فى اقتصادات هذه الدول خصوصًا فى إيران وكوريا الشمالية، لكن عندما يتهدد الأمن القومى لأى بلد فامتلاك قدرة الردع فى المجال العسكرى يحتل أهمية كبرى.
هل من دروس للشعوب العربية؟
لا يوجد محور مقاومة بين الدول العربية فى مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وعلى الرغم من أن مطامح القادة الإسرائيليين التى عبروا عنها علنًا لا تقتصر على توطيد احتلال كل فلسطين، بل أحد المرشحين لخلافة نتنياهو، وهو نفسه مستوطن سابق لم يخفِ تصوره لحدود إسرائيل الكبرى، والتى لا تتسع فقط لفلسطين لكنها تشمل أيضًا سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر والسعودية. ومع ذلك ومع تباين مواقف بعض الحكومات العربية من إسرائيل إلا أنها تراوحت بين الترحيب المستتر بما بدا وأنه نجاح إسرائيل فى القضاء على قيادات كل من حماس وحزب الله وتدمير قدراتهما العسكرية، وبين إمساك العصا من المنتصف، مع تعويلها كلها على نجاح المجتمع الدولى خارج الوطن العربى فى وقف شهوة إسرائيل فى استخدام قدراتها العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية فى شن حرب وحشية على كل من الشعبين الفلسطينى واللبنانى.
وهكذا يقتصر محور المقاومة فى الوطن العربى على منظمات غير حكومية هى حماس وحزب الله وأنصار الله فى اليمن والحشد الشعبى فى العراق، وتؤيدهما جميعا إيران وهى دولة غير عربية، وذلك على الرغم من أن محور المقاومة الأول للمشروع الصهيونى فى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى فى ١٩٤٨ تتشكل من سبع دول عربية، وبعضها كان خاضعًا للاحتلال الأجنبى.
لا تملك أى من الدول العربية فى الوقت الحاضر القدرات العلمية والتكنولوجية والعسكرية التى قد تمكنها من ردع العدوانية الصهيونية، ولا يطالبها أحد بإعلان الحرب على إسرائيل، لكن يمكنها على الأقل تفعيل عملها الدبلوماسى بالانضمام إلى جنوب إفريقيا فى دعواها أمام محكمة العدل الدولية، وفى حشد التأييد داخل الأمم المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وفى وقف تعاونها مع إسرائيل فى مجال الاتصالات والنقل والتبادل التجارى بحرمان الطيران الإسرائيلى من التحليق فى أجواء الخليج اتصالا بأوروبا، ووقف مرور التجارة الإسرائيلية من موانئ الخليج إلى موانيها على البحر المتوسط، وتطوير علاقات التحالف مع الدول المعادية لإسرائيل فى الشرق الأوسط وخارجه. هل تستطيع الشعوب العربية إقناع الحكومات العربية بهذه المطالب المتواضعة لتشكيل نواة لمحور مقاومة عربى طال انتظاره.