لا يوجد كثيرون يشككون فى أن أحوالنا مستمرة فى التدهور. لم تتدهور هذه الأحوال بسبب الثورة. أنا شخصيا ويشاركنى آخرون فى اقتناعى الكامل بأن الثورة غير مسئولة عن تدهور أحوالنا، فالثورة قامت لأن الأحوال كانت متدهورة، وإلا ما قامت ثورة وما خرجت الملايين إلى الميادين والشوارع، وما تجددت وانتعشت روح المواطنة. من هذه الثورة الكبرى تسربت ثورات صغيرة فى شرايين الناس فدخلت البيوت ومواقع العمل وعددا كبيرا من مؤسسات الدولة.
تصور البعض، وبخاصة من الثوار، أن الثورة كافية وكفيلة بأن تنظم نفسها وترتب الوطن وتنتقل به إلى مراتب عليا فى الفكر والثقافة والقوة والمكانة بين الأمم. نسينا فى جذوة الفرح أن الثورة ليست حدثا أو إجراءا عاديا، إنما صيرورة بدون نقطة نهاية عند يوم محدد أو تطور معين، هى مستمرة فى تغيير علاقات الأفراد بعضهم بالبعض الآخر، والطبقات إحداها بالأخرى والأخلاق والسلوك حتى تأتى مرحلة بعد سنوات أو عقود يقال فيها عن أمة بعينها: هذه الأمة نتاج عملية ثورية بدأت ذات يوم من أيام شهر كذا من عام كذا فى القرن كذا.
قد تخرج عليها، أى على الثورة، يوما جماعة أو مجموعة أو عصابة فتستولى عليها، تستفيد من حال الغموض الذى يلف هذه الثورة مثلما لف ثورات أخرى من قبلها وسوف يلف ثورات تأتى بعدها. جرت دائما، وستجرى كثيرا، محاولات توجيه الثورة إلى مسارات بعينها تخدم عقائد ومصالح سياسية واقتصادية معينة، ليس بينها بالضرورة العقيدة أو الرؤى التى خرج بها الثوار إلى الميادين والشوارع. جرت أيضا وتجرى محاولات لإحباط الأهداف التى انطلقت لتحقيقها الثورة، ومحاولات أكثر لإفساد بعض من برزوا فى مواقع قيادتها، وجهود متنوعة لتشويه سمعتها فى الداخل وفى الخارج أيضا. المهم من وجهة نظرهم الإسراع فى سحب الشرعية الأخلاقية التى استندت إليها، وتقليل الانبهار العالمى بها، تمهيدا ليوم يسمح بتوجيه ضربة قاسمة لها، سواء من قوى خارجية أو داخلية أو مشتركة بين هذه وتلك.
●●●
ما أتعسها أمة، تكالبت للإساءة لها وإضعافها «وهد حيلها» قوى كان بعضها يشارك فى حكمها ويحتفظ بأهم مفاتيح أمنها وثرواتها. ما أتعسه شعب قيضوا للولاية عليه من لم يعرفه من قبل، ولم يعرف عنه صلاحية للولاية أو حسن الأداء السياسى. جاءت الوصاية عليه من جهة انقطعت صلة الشعب بها سنوات، وانقطعت صلتها بالسياسة لسنوات أطول. أنيط بمجلس عال من القادة العسكريين مسئولية حماية ثورة. عسكريون نظاميون يتولون مناصب رسمية ومسئولون عن أمن البلاد يتولون حماية ثورة. كان هذا التناقض كافيا لتسميم أجواء مرحلة تبادل فيها الأوصياء والثوار سوء الفهم بالنسبة لكل كبيرة وصغيرة، ابتداء من فهم الطرفين لكلمة «الثورة» وانتهاء بفهمهما لكرامة الوطن واحترام المؤسسات القومية، وهو ما اتضح جليا وصارخا خلال الحملة ضد المجتمع المدنى وطريقة التعامل مع الأمريكان المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى. لم يكن المتصور أن يتخذ الطرفان (النظامى والثورى) موقف المواجهة ثم العداء وأحيانا الحرب الفعلية. هنا، كما فى مواقع أخرى، أخطأ القادة العسكريون لأنهم لم يقدروا أن ما استهانوا به، وأقصد الثورة، التى مازالوا يصرون على موقفهم منها، ليست عدوا ينتصر ويهزم فى معركة أو فى حرب، وليست كائنا زائلا. الثورة روح تنفث فى أمة لتحيا وتنضج وتتطور وتتقدم. هذه الثورة واحدة من الثورات التى شكلت التاريخ الإنسانى وصنعت محطاته الرئيسية، لولاها ما انتقلت البشرية من الإقطاع إلى حضارة الزراعة ومن حضارة الزراعة إلى حضارة الصناعة ومن حضارة الصناعة إلى حضارة المعلومات والمعرفة، لولاها ما تطورت أخلاقيات البشر وسلوكياتهم من تقاليد الوثنية إلى أخلاقيات الأديان السماوية.
●●●
كانت ثورة مصر، لسوء الحظ، محل سوء فهم لا شك فيه ولعله غير متعمد، ولكنه بدا منطقيا لدى العارفين بطريقة تفكير القادة العسكريين الذين نشأوا على الطاعة والنظام والانضباط. هؤلاء يعرفون جيدا أن القادة العسكريين إن غضبوا أو أهينوا انقلبوا وفى غالب الأحوال لا يثورون، وإن فاجأتهم الثورة حاربوها، وإن كانت الغلبة للثوار فلن يدعموها، وإن استمرت لن يهادنوها مهما كلفهم الأمر. هكذا تعامل القادة العسكريون العراقيون مع ثورة الجنوب فى العراق، وتعامل القادة العسكريون اليمنيون مع ثورة شباب اليمن وقادة ليبيا مع الثورة ضد القذافى. أما النمط الأسوأ فهو النمط الذى يستخدمه حاليا قادة الجيش السورى ضد ثورة حقيقية لا يشكك فى أصالتها ودوافعها الاتهام الذى نسمعه عنها وعن الثورة المصرية من أنهما نشبتا على أيدى قوى أجنبية ماسونية أو إمبريالية أو عصابات إجرامية. يخلطون خلطا ساذجا ولكن متعمدا بين رغبة شعبية جارفة فى التغيير وإنهاء الظلم والاستبداد والتعذيب والتخلص من فساد جميع الأجهزة والمؤسسات ومن سياسات إفقار الأغلبية لصالح أقلية استمرأت النهب، وبين تشجيع ودعم من جانب قوى أجنبية أيا كانت أهداف هذه القوى ومصالحها وأطماعها.
●●●
مرت شهور عديدة وجرت مياه وفيرة فى قناة الثورة المصرية ومازالت عقدة سوء الفهم بدون حل، بل أظن أنها تفاقمت، ولن أكون مبالغا إن قلت إن جميع مسارات الفهم السليمة والنوايا الطيبة وصلت إلى طريق مسدود. أرى الدليل واضحا فى عودة التشاؤم ليسيطر على المزاج الشعبى العام، وفى التردى الخطير فى الخطاب السياسى والشك الرهيب المتبادل بين عديد القوى والتيارات، وفى التوقع كثير التردد بأن أحداثا جسام قد تفرض نفسها لفتح ما انسد أو تغييره أو العودة إلى ما كان.
●●●
تغيرت مصر فى الشهور الأخيرة كما لم تتغير فى عقود، تغيرت شكلا ومضمونا.. الشكل لا يبهج. أما المضمون فأنا مقتنع به ومتفائل، وإن تأخر العائد.