نشرت مؤسسة The New York Review of Books مقالا للكاتبة «هيلين إبستين» المتخصصة فى الصحة العامة. تناولت فيه عرضا لدراسة للباحث الكونغولى «بونيفاس موسافولى» عن المجازر التى ارتكبت فى بينى باعتبارها الأسوأ على الإطلاق فى تاريخ الكونغو. ويتحدث الباحث عن أسباب عدم الاستقرار فى الكونغو ويرجعها إلى التدخل الخارجى الذى بدأ منذ الاستعمار البلجيكى فى القرن التاسع عشر مرورا بالحكومات المدعومة من دول خارجية وصولا إلى دعم رواندا وأوغندا للحركات المتمردة فى البلاد.
تبدأ الكاتبة حديثها بالإشارة إلى أنه يتعين على وزير الخارجية الأمريكى «ريكس تيلرسون»، فى أول زيارة له إلى إفريقيا، فى مارس المقبل، أن يعيد التفكير فى الدعم الذى تقدمه الولايات المتحدة ــ منذ فترة طويلة ــ لبعض الأنظمة السلطوية فى إفريقيا، وخاصة نظام يورى موسيفينى فى أوغندا وبول كاجامه فى رواندا، اللذين يمثلان خطرا على جارتهما الكونغو.
ولقد شهدت منطقة بينى الواقعة شرقى البلاد أبشع أعمال عنف فى الكونغو، المنطقة الغنية بالنفط والذهب، والتى كانت تعتبر منذ فترة طويلة مركزا لتهريب الموارد الطبيعية إلى أوغندا ورواندا ومنهما إلى الأسواق العالمية. ومنذ عام 2014 قتل الآلاف من المدنيين فى المنطقة فضلا عن تهجير مئات الآلاف من مزارعهم وقراهم.
تسيطر الجماعات المسلحة على معظم المناطق فى شرق البلاد؛ فبعضها يتلقى دعما من الحكومة فى كينشاسا، فى حين يتلقى البعض الآخر المساعدات السرية من دول الجوار مثل رواندا وأوغندا وبوروندى. ومن الجدير بالذكر أن بعض الجماعات تحاول الدفاع عن السكان المحليين ضد هجمات جماعات أخرى بغية تحقيق أهداف سياسية أكبر، كما ينتقل بعض الأفراد من جماعات مسلحة إلى أخرى لأغراض التجسس أو تبديل الولاءات... إلخ.
وفى مثل هذه الظروف، فإن وسائل الإعلام غير الرسمية تمدنا بأفكار أكثر مصداقية من تلك الرسمية، ويرجع ذلك إلى صلاتهم بالسكان المحليين وقوات الأمن والكنائس والحركات السياسية فى المناطق التى مزقتها الحروب. وفى هذا الإطار تقدم الكاتبة عرضا لدراسة للباحث الكونغولى «بونيفاس موسافولى»، بعنوان «المجازر التى ارتكبت فى بينى».
ويرجع موسافولى أسباب عدم الاستقرار فى الكونغو إلى التدخل الخارجى، الذى بدأ بالاستعمار البلجيكى فى القرن التاسع عشر مرورا بحكم الدكتاتور «موبوتو سيسى سيكو» المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذى أهدر ثروات البلاد وجعلها تحت السيطرة الغربية، وصولا إلى تدخل أوغندا ورواندا فى شئون البلاد لدعم الحركات المتمردة للإطاحة بنظام موبوتو، واحتلالهما لأكثر من 1000 ميل مربع من شرق الكونغو ونهب مواردها الطبيعية.
ومن الجدير بالذكر أن القوات الأوغندية والرواندية انسحبتا رسميا من الكونغو فى عام 2003. وفى عام 2012، كشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة عن ارتباط رواندا وأوغندا بمجموعة متمردة والتى تعرف باسم حركة 23 مارس، وهو ما أدى إلى فرض الدول الغربية عقوبات على رواندا دون أوغندا؛ وذلك لأسباب غير معروفة.
***
فى البداية ألقى اللوم على كل من قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام وحكومة الكونغو بسبب مجازر بينى والمتهم فيها جماعة «القوات الديمقراطية المتحالفة» المدعومة من قبل أوغندا. ويشير موسافولى إلى أنه على الرغم من أن «القوات الديمقراطية المتحالفة» سيطرت على بينى لأكثر من عشرين عاما، فإنها لم ترتكب مثل هذه الوحشية غير المبررة من قبل.
ويشكك فريق من الباحثين ــ بالأمم المتحدة وبمركز أبحاث مهتم بالكونغو بجامعة نيويورك ــ فى التقارير الرسمية. ويرون أنه ربما قد شارك مقاتلو «قوات الديمقراطية المتحالفة» فى بعض المجازر، ولكن لا يوجد دليل على ذلك. ورصدوا حالات تورط للعديد من ضباط الجيش الكونغولى فى أعمال عنف. وفى عام 2015، حذرت قوات حفظ السلام من وقوع مجزرة وشيكة فى مدينة مافيفى بإقليم بينى، وأقاموا كمينا وقتلوا نحو عشرين مهاجما. وأفادت الأنباء أن اثنين من ضباط الجيش الناطقين باللغة «الكينيارواندية» كانا من بين القتلى، وهما ريتشارد مونجورا عضو سابق فى التجمع الكونغولى من أجل الديمقراطية وهى جماعة متمردة تدعمها رواندا، واينوسنت بينومبى ضابط فى الجيش الرواندى. ويضيف موسافولى أن الموالين لرواندا فى الجيش الكونغولى قاموا بالتسلل إلى «القوات الديمقراطية المتحالفة» وغيرها من الجماعات وحاولوا التأثير عليهم.
وفى 7 ديسمبر، هاجمت مجموعة من المسلحين مخيما للأمم المتحدة فى بينى، وهو ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن أربعة عشر شخصا من قوات حفظ السلام وأكثر من خمسين جريحا. وكان هذا الهجوم هو الأكبر من نوعه لقوات حفظ السلام التابعة الأمم المتحدة منذ نحو خمسة وعشرين عاما.
***
ولقد منعت حكومة كابيلا كل المناقشات حول المجازر التى وقعت فى منطقة بينى، كما أغلقت عدة محطات إذاعية بسبب ظهور بعض الشخصيات المحلية التى تدعى أن «القوات الديمقراطية المتحالفة» ربما لم تكن هى الجهة الرئيسية التى ارتكبت تلك المجازر، فضلا عن قتل شخصيات محلية بعد أن تحدثوا عن احتمال تورط ضباط من الجيش الكونغولى الموالين لرواندا فى تلك المجازر. كما توفى قائدان كبيران من الجيش الكونغولى، اللواء جان لوسيان باهوما والعقيد مامادو ندالا، فى ظروف مريبة، وقد كان لهما دور مهم فى معارك ضد المتمردين المدعومين من رواندا.
ومن الجدير بالذكر أن أوغندا أرسلت طائرات فوق حدود الكونغو إلى منطقة بينى لمطاردة «قوات الديمقراطية المتحالفة» وذلك ردا على الهجوم على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وعلى موجة من عمليات القتل الغامضة داخل أوغندا، على الرغم من عدم وجود دليل أيضا على قوات الديمقراطية المتحالفة. ولكن الدافع الحقيقى يرجع إلى رغبة أوغندا فى استعراض قوتها بعد تصاعد التوتر مع رواندا. حيث ألقى القبض على عشرات الجواسيس الروانديين المزعومين فى أوغندا، ويدعى البعض أنهم تعرضوا للتعذيب. وفى الوقت نفسه اتهمت رواندا أوغندا بدعم المنشقين الروانديين الذين عزموا على الإطاحة بالرئيس كاجامه.
***
ووفقا لموسافولى فإن الزعيم الأوغندى موسيفينى لديه تصميمات لرواسب نفط ضخمة فى منطقة بينى ــ وهى المنطقة التى تحاول قوات كاجامه السيطرة عليها منذ سنوات. ويحاول موسيفينى البدء فى ضخ ما يقدر بــ6.5 مليار برميل من النفط الخام على الحدود الأوغندية من الكونغو حتى لا يعتمد على المانحين الغربيين. لكن هناك صعوبة فى نقله إلى المحيط الهندى لشحنه إلى الأسواق العالمية حيث سيتطلب تشغيله من خلال أطول خط أنابيب ساخن فى العالم، وهو ما يزيد أربعة أضعاف تكلفة النقل مقارنة بالنفط الخام العادى. ووافقت شركة البترول الفرنسية العملاقة توتال على بناء خط الأنابيب. ولكن لم يكن الوصول إلى نفط بينى أمرا سهلا، نظرا لاحتلال أوغندا ورواندا البلاد لأكثر من عشرين عاما. ومعظم الجماعات المسلحة فى شرق الكونغو إما معادية لكابيلا وإما لموسيفينى وإما لكاجامه أو لجميعهم.
وترى الكاتبة أن السبيل الوحيدة للخروج من هذه الفوضى هى عودة الكونغو مرة أخرى إلى الكونغوليين. حيث عانت البلاد منذ قرن ونصف من التدخل الخارجى ــ بدءا من النهب الإمبريالى، ثم الديكتاتورية العميلة لوكالة المخابرات المركزية، وصولا للسلطات الإقليمية المدعومة من الغرب والتى تلعب دورا كبيرا فى البلاد. فالبلدان التى أجريت فيها انتخابات حرة ونزيهة نسبيا مثل غانا والسنغال وجنوب إفريقيا وملاوى وبوتسوانا لا تعانى من مشكلات، كما أن لها علاقات تجارية جيدة مع الغرب وتجنبت إراقة الدماء المروعة التى عصفت بالدكتاتوريات الإفريقية مثل الكونغو وأوغندا ورواندا وإثيوبيا وجنوب السودان.
وتختتم الكاتبة حديثها بالإشارة إلى ضرورة اتحاد كل من الشباب الكونغولى فضلا عن رجال الدين وقادة المجتمع المدنى، فى رغبتهم فى أن يتنحى الرئيس كابيلا، الذى أرجأ الانتخابات المقررة مرتين. ولقد خيمت الفوضى التى سببتها القوات العميلة المدعومة من رواندا وأوغندا على النزاع فى شرق الكونغو، وهو ما سهل على المراقبين إلقاء اللوم على الكونغوليين. والخطر الأكبر الآن هو أنه سيتم استبدال كابيلا بدعم غربى لصالح «الاستقرار، وتتمنى الكاتبة ألا يكون هذا جزءا من أجندة تيلرسون.
إعداد: زينب حسنى عزالدين
النص الاصلى
الاقتباس
لقد شهدت منطقة بينى الواقعة شرقى البلاد أبشع أعمال عنف فى الكونغو، المنطقة الغنية بالنفط والذهب، والتى كانت تعتبر منذ فترة طويلة مركزا لتهريب الموارد الطبيعية إلى أوغندا ورواندا ومنهما إلى الأسواق العالمية. ومنذ عام 2014 قتل الآلاف من المدنيين فى المنطقة فضلا عن تهجير مئات الآلاف من مزارعهم وقراهم.