نعم كيف نستفيد من موارد التمويل الأجنبى التى بدأت (تهلّ) علينا كل صباح تقريبا هذه الأيام. من 35 مليار دولار من الإمارات (منها 15 مليارا تدفع خلال أيام..!) إلى نحو 8 مليارات وأكثر من أحد برامج (صندوق النقد الدولى) ثم إلى نحو 7 مليارات أخرى يقال إنها سوف تأتى من مانحى الاتحاد الأوروبى قريبا..!. وحزمة أخرى من البنك الدولى بعدة مليارات.. كل ذلك يدعونا إلى التساؤل كما تساءل غيرنا كثيرا. كيف نستفيد من هذه الموارد المالية المتدفقة نحو الداخل هذه الأيام؟
هناك مدخلان مقترحان ممثلان لذلك: المدخل الأول التنموى الصرف. والمدخل الثانى قائم على ما يمكن أن يسمّى مقترب «النمو الاقتصادى».
فما هو قوام المدخل التنموى؟ قوامه ما تعلمناه من أدبيات التنمية الاقتصادية الأولى فى الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم، على نحو ما سرد د. محمد زكى شافعى (أول عميد لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة)؛ حيث درست فيها ومعى رفاق كُثر، وذلك فى كتابه الصغير نسبيا: التنمية الاقتصادية. إذ قال لنا فى محاضراته الشفوية (عام 1963/64) ثم دونها فى كتابه المذكور، إن الفكر التنموى له ثلاثة أعمدة كبار، يمثلها جميعا مفكرون أفذاذ:
ــ العمود الأول ما كان يسميه «التغير البنيانى»، وما نسميه الآن: (التحول الهيكلى) بمعنى إحداث سلسلة مترابطة من التحولات فى هيكل الناتج المحلى الإجمالى.
ــ العمود الثانى يمثله منظور «الدفعة القوية» Big push للمفكر روزنشتين رودان وتعنى صبّ مقادير جدّ هائلة من رءوس الأموال فى غمار عملية التحول الهيكلى المشار إليه، انتقالا بصفة خاصة من أولوية الزراعة والرعى والتعدين أو الصناعة الاستخراجية إلى أولوية الصناعة التحويلية. وذلك سيرا على خطى المفكر الاشتراكى البريطانى «موريس دوب» فى كتاباته عن التنمية.
أما العمود الثالث فهو وضع استراتيجية تنموية، تقوم إما على قطاع رائد Key sector على نحو ما أوضح عدد من المفكرين مثل راءول بريبيش، حيث ينمو ذلك القطاع القائد ويجرّ من ورائه بقية القطاعات الاقتصادية، مثل مقدمة القطار. فكأن التنمية تكون «غير متوازنة» فى بداياتها، حين (يتعملق) قطاع إنتاجى معين ويجُر ما وراءه جرّا منظما.
وتقوم مقابل هذه الاستراتيجية غير المتوازنة، «استراتيجية التنمية المتوازنة»؛ حيث يتم تطوير عدة قطاعات إنتاجية بالتوازى، وفى وقت واحد تقريبا. وغالبا ما يكون «القطاع الرائد» فى حالة الاستراتيجية غير المتوازنة هو قطاع التصنيع المتطور تكنولوجيا، بينما يجرى الجهد التنموى فى حالة «التوازن» مدفوعا بعدة قطاعات، من الزراعة إلى الصناعة إلى الخدمات.
هذا إذن هو المقترب التنموى الذى لو اتبعناه كنهج اقتصادى مصرى خلال المرحلة القادمة، فسوف يلزم أن نقوم بصبّ كم هائل من النفقات العامة (والخاصة أيضا) فى مجرى عملية التنمية الاقتصادية (والاجتماعية). وعلى أن يرتبط هذا الجهد العملاق بإحداث مجموعة مترابطة من التحولات الهيكلية، انتقالا بالاقتصاد القومى، من اقتصاد معتمد على إنتاج المواد الأولية (زراعية كانت أو منجمية ونفطية مثلا) إلى اقتصاد معتمد على أنشطة ذات إنتاجية أكثر ارتفاعا، فى مقدمتها الصناعة التحويلية. كما يلزم أن نقوم باختيار استراتيجية تنموية محددة، إما على مذهب التوازن أو عدم التوازن.
ولكن كيف لنا أن نفعل ذلك، بينما أن المانحين لنا من العرب والأجانب لا يحبذون النهج التنموى (الكلاسيكى) ذاك أصلا، سواء منهم هذه الدولة العربية أو تلك، أو (صندوق النقد الدولى) و(البنك الدولى)، أو المانحون من أوروبا الغربية. وإنما يفضلون جميعهم الأنشطة الإنشائية، ذات الطابع المعروف بالمشروعات العملاقة Mega projects مثل بناء الموانئ والمدن الجديدة والأرصفة البحرية والسكك الحديدية والجسور المعلقة وغير المعلقة، وبعض مشروعات المرافق الأساسية والطاقة، إن أمكن.
فلذلك نجد الباب موصدا فى هذه الحالة من دون ولوج المدخل التنموى الأساسى.. ونجد أنفسنا (متورطين) فى مشروعات عملاقة، وخاصة لشبكات الطرق وبناء المدن.
لذلك إن أردنا تحقيق التنمية فليس لنا أن نلجأ إلى موارد التمويل الأجنبى، ولكن إلى موارد التمويل المحلى ــ أو المدخرات (القومية) الصرفة، على أن ننهج نهجا خاصا بنا، لا يرتكز إلى المشروعات العملاقة بالضرورة، ولكن إلى (الصناعات) الصغيرة والمتوسطة. ولا نقول «المشروعات الصغيرة والمتوسطة» ولكن نعنى (الصناعات) على وجه التحديد. فعن طرق تجميع المدخرات الفردية والعائلية وما إليها يمكن التشجيع على إقامة (مشروعات) صناعية ذات تكنولوجيا وسيطة فى الغالب، موجهة لإشباع الحاجات الأساسية، مع ارتباط بمشروعات كبيرة تصنيعية، ذات عمق تكنولوجى راسخ، مثل الحديد والصلب، ومعدات النقل، وتصنيع الآلات والمعدات، إلى جانب مشروعات للتكنولوجيا الرقمية يقودها شباب فى أعمال صغيرة يقال لهاStartــups.
ومما سبق كله، يكون أمامنا بديلان ممثلان:
ــ البديل الأول: يقوم على المشروعات الكبرى الممولة بالموارد الأجنبية، من استثمارات مباشرة وغير مباشرة كما هو حال بعض من التمويل (العربى) إلى «المساعدات التنموية الرسمية»، كما فى حالة صندوق النقد الدولى والمانحين غير الأوروبيين، وهذه ترتكز على الأنشطة الإنشائية أساسا.
ــ البديل الثانى: يقوم على الصناعة والتكنولوجيا، التى تقوم على «التمويل الشعبى»، متجهة نحو التعميق الصناعى والتكنولوجى.
فما رأيكم أيها السادة أن نوجه الموارد ذات الأصل الأجنبى، أيّا كانت، للمشروعات الإنشائية الكبرى كالجسور وبناء المدن، بينما نحثّ المجتمع القاعدى «عند الجذور» Grass roots على التحول إلى خلايا إنتاجية حية تقيم الصناعة وتبنى القواعد التكنولوجية، بأيديها «المعروقة»، وبعرقها المبارك..؟ ذلك ما ندعو إليه حقا؛ ونأمل فتح أبواب النقاش الفكرى والمجتمعى حول الاختيار الأمثل، والجمع بين البديلين معا.. سعيا إلى صبّ قاعدة إنشائية، من جهة أولى، وبناء قاعدة صناعية تكنولوجية لنا وللأجيال القادمة، من جهة ثانية، قائمة على «منظومة وطنية للابتكارات» تستوعب أحدث كلمة قالها العلم أو قالتها التكنولوجيا، مثل «الذكاء الاصطناعى».