التقدم تحت الحصار.. من إنكار العلم إلى تعطيل الاقتصاد - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأربعاء 10 سبتمبر 2025 12:21 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

التقدم تحت الحصار.. من إنكار العلم إلى تعطيل الاقتصاد

نشر فى : الإثنين 8 سبتمبر 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 8 سبتمبر 2025 - 7:35 م

من المدهش أن يتزامن صدور كتاب جديد بعنوان «العلم تحت الحصار» لعالمَى الاقتصاد والسياسات العامة «مايكل مان» و«بيتر هوتيز»، مع فورة جدل عالمى واسع حول جدوى التقدم العلمى والاقتصادى لتحقيق مصالح البشر. فالكتاب يركز على كيف يتعرض العلم لإنكار متزايد، سواء فى مجال اللقاحات أو فى سياسات المناخ، غير أن الظاهرة ــ كما أتصور ــ تتجاوز حدود الطب والبيئة لتطال الاقتصاد والمجتمع. فلم يعد مستهجنًا أن تنطلق أبواق معاندة للوقائع والأبحاث، متعالية عليها ومشككة فيها، ساعية إلى تعطيل كل ما يمكن أن يقود إلى التقدم، بحجج تتراوح بين المصالح الضيقة والشعبوية السياسية. بالتدريج، خلت مواقع التواصل من أبسط الثوابت، حتى إن كروية الأرض باتت محل تشكيك!.

وإذا كان الإنكار يطول مكتسبات اللقاحات أو ثورة الطاقة المتجددة أو فهمنا للكون والطبيعة، فإنه يمتد بالجرأة ذاتها إلى الاقتصاد بوصفه علمًا له أدواته ومناهجه وحقائقه. فما يحدث هو رفض شامل لنتائج العلم، سواء أكانت فى المختبرات الطبية أو فى جداول الإحصاء الاقتصادى. والجامع بين الأمرين هو تلك النزعة إلى إنكار التقدم، وإلى استدعاء خطاب يضخّم الأزمات ويقلّل من شأن المنجزات، بغية وقف قطار العولمة، وتبرير الصراعات التجارية وتعزيز حالة الاستقطاب العام. اللافت أن هذا الإنكار يحدث فى وقت تفيض فيه المؤشرات الاقتصادية والدراسات البحثية بما يؤكد على قدر لا بأس به من التحسن المحقق خلال العقود الثلاثة الماضية. فالاقتصادى الفرنسى الشهير «توماس بيكيتى»، فى أعماله الأخيرة حول توزيع الثروة، يشير إلى أن الفجوات ما زالت قائمة، لكنها لم تمنع من تحسّن مستويات المعيشة فى كثير من مناطق العالم قياسًا بأوائل التسعينيات. أما «أنجوس ديتون» الحائز على نوبل عام 2015 فقد أكد فى كتابه «الهروب من الفقر» على أن التقدم فى المؤشرات الصحية والتعليمية هو أوضح من أن يُنكر، حتى لو تخللته انتكاسات.

• • •

وعندما نتأمل النمو الاقتصادى الأمريكى منذ عام 1992، نجد أنه تفوق على اليابان والاتحاد الأوروبى مجتمعين، كما أشار «بول كروجمان» مؤخرًا فى تحليلاته لصحيفة نيويورك تايمز. هذا التفوق لم يكن متوقعًا أبدا فى بداية التسعينيات، حين كتب «ليستر ثارو» كتابه الشهير «رأس برأس: المعركة الاقتصادية المقبلة بين اليابان وأوروبا وأمريكا» متنبئًا بانتصار اليابان فى تلك المعركة. واليوم، بينما يصف «لورنس سامرز» الاقتصاد الأمريكى بأنه «الأكثر ديناميكية بين الاقتصادات المتقدمة»، نجد أصواتًا فى الداخل الأمريكى تنكر هذا التقدم وتصور المستقبل وكأنه انهيار وشيك، انتصارًا لدراما «ترامب» العدائية والمتحفّزة ضد الغرب والشرق لصالح شعار «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى».

الأمر نفسه يتكرر فى قضايا المناخ، فالمعهد الدولى لبحوث السياسات البيئية نشر قبل أشهر تقريرًا يوضح أن تكلفة إنتاج الطاقة الشمسية والرياح انخفضت إلى أقل من نصف ما كانت عليه قبل عشر سنوات، ما يجعل الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون خيارًا عمليًا لا طوباويًا. ومع ذلك، فإن معسكرات سياسية نافذة تسعى لتعطيل هذا التحوّل، حمايةً لمصالح شركات الوقود الأحفورى أو استجابة لخطابات انتخابية قصيرة الأجل. حتى فى مجال الصحة العامة تكررت الظاهرة، عندما شهدنا أثناء جائحة كورونا موجات من التشكيك فى اللقاحات، وصلت إلى حد الامتناع الشعبى عن التطعيم، برغم ما أظهرته دراسات جامعة أوكسفورد ومنظمة الصحة العالمية من أن هذه اللقاحات خفضت معدلات الوفيات بأكثر من 60%.

تلك المفارقة بين التقدم المحقق وإنكاره ليست شأنًا أمريكيًا أو غربيًا صرفًا، ففى عالمنا العربى، نرى أصداء مشابهة: محاولات مستمرة لإعاقة التحول الرقمى بذريعة حماية الوظائف التقليدية، أو التشكيك فى سياسات تنويع مصادر الطاقة، أو حتى تصوير التطور التكنولوجى كتهديد للهوية العربية والإسلامية!. إننا نعيد إنتاج الصورة ذاتها: العلم والاقتصاد يحققان قفزات، بينما تتكاثر القوى التى تعمل على تعطيلها.

• • •

فى الواقع العربى يتجلّى التناقض بين التقدم الممكن والإنكار أو التعطيل بصورة أشد وضوحًا. فبحسب تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين فى السنوات الأخيرة، تمتلك المنطقة العربية قدرة هائلة على الاستفادة من ثورة الطاقة المتجددة، بفضل ما لديها من سطوع شمسى ورياح متواصلة، تجعلها من أغنى بقاع العالم فى الموارد الطبيعية النظيفة. ومع ذلك، ما زالت معظم الاقتصادات العربية تعتمد على الوقود الأحفورى بنسبة تتجاوز 80%، فى وقت يصف فيه «جوزيف ستيجليتز» التحول الأخضر بأنه: الفرصة الاقتصادية الأهم منذ الثورة الصناعية الأولى.

فى مصر، تبدو الصورة أوضح: فقد استطاعت الدولة خلال العقد الأخير أن تنجز أحد أكبر مشروعات الطاقة الشمسية فى العالم (مجمع بنبان بأسوان)، وشرعت فى توسعات فى طاقة الرياح بخليج السويس. هذه الإنجازات كان يمكن أن تكون قاعدة لانطلاقة كبرى فى مجال تصدير الطاقة النظيفة، أو على الأقل لخفض فاتورة الوقود الأحفورى المستورد. لكن ما نراه هو مقاومة لهذا التحول، أحيانًا من داخل البيروقراطية نفسها، أو من مصالح ترتبط بعقود توريد تقليدية، أو من خطاب شعبى مشفق من التحوّلات الكبرى. الخطاب المشجّع للطاقة النظيفة يتعارض مع بعض السياسات المعلنة وآخرها الإعلان عن رفع تعريفة شحن السيارات الكهربائية بنسب كبيرة ودون تدرّج!.

الأمر لا يقتصر على الطاقة النظيفة، فمحاولات التحول الرقمى فى الخدمات الحكومية والمصرفية تواجه بدورها صعوبات ناجمة عن مقاومة ضمنية لمصالح راسخة. «دانى رودريك»، أستاذ الاقتصاد السياسى الدولى بجامعة هارفارد، يلفت فى مقالاته الأخيرة إلى أن «المقاومة للتغيير فى الاقتصادات الناشئة غالبًا ما تأتى من الداخل لا من الخارج»، أى أن أصحاب الامتيازات الذين يخشون فقدانها هم الذين يقودون معسكر الإنكار والتعطيل، وهو فى استنتاجه يتفق مع مدلول مصطلح بات شائعًا فى ثقافتنا المصرية منذ عام 2011، وهو «الدولة العميقة». يشير «كينيث روجوف» (أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد) إلى أن «التحدى الحقيقى لاقتصادات الجنوب العالمى لا يكمن فقط فى الحصول على التكنولوجيا أو التمويل، بل فى قدرتها المؤسسية على مواجهة قوى المصالح التى تعطل التغيير». وهذا التشخيص ينطبق بوضوح على مصر والمنطقة العربية: فنحن نعرف ما يلزم من إصلاحات، ونتابع التجارب الدولية الناجحة، لكننا نصطدم دومًا بواقع داخلى يراوح بين البيروقراطية، والمحافظة الاجتماعية، والشعبوية الإعلامية.

ولعل الملف الأبرز فى مصر اليوم هو ملف الطاقة، إذ إن زيادة واردات الغاز الطبيعى بنسبة تقارب 157% فى الربع الأول من 2025، كما أظهرت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ليست مجرد رقم فى ميزان المدفوعات، بل انعكاس مباشر لبطء التحول إلى مصادر بديلة، وللاستهلاك غير الرشيد. هذا بالضبط ما يحذر منه «ستيفن كين» (أستاذ الاقتصاد بجامعة كينجستون) حين يقول: التكنولوجيا وحدها لا تنقذ اقتصادًا، إن لم يصحبها تغيير فى السلوك والسياسات.

• • •

فى الختام، تجدر الإشارة إلى أن معركة «العلم تحت الحصار» ليست حكرًا على الغرب، فنحن أيضًا نعيشها بشكل أعنف، حين نرى التقدم العلمى والتقنى متاحًا، لكننا نصطدم بقوى تعطل تبنيه. وإذا كان «مان» و«هوتيز» قد قصرا حديثهما فى كتابهما على اللقاحات والمناخ، فإن واقعنا العربى والمصرى يُثبت أن الحصار يمتد إلى مجالات الاقتصاد، والطاقة، والتحول الرقمى، بل وإلى التفكير النقدى ذاته.

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات