إصلاح دولة الأمن العربية - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إصلاح دولة الأمن العربية

نشر فى : الأربعاء 4 مايو 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 5 مايو 2016 - 8:12 ص

تؤكد تجربة الدول العربية أن المقاربات التكنوقراطية فيما يتعلق بإصلاح قطاع الأمن عاجزة عن تحقيق الغرض. والأمر ببساطة أن التركيز على ترقية ورفع مستوى المهارات الغنية والقدرات العملياتية، فى غياب تحسين حوكمة الأجهزة الأمنية، يُمكن تقويضه بسهولة من قِبَل تحالفات مناهضة للإصلاح، وهو ما يعزز نهاية أنماط رجعية من السلوك.


يصدق هذا بشكل خاص فى البيئات السياسية والاجتماعية شديدة الاستقطاب، وبأكبر قدر من الوضوح فى مصر والعراق وليبيا واليمن، ناهيك عن البحرين وسوريا. فقد يحقق النهج التدرجى نجاحا جزئيا حيثما تتوفر بعض التعددية ــ كما هو الحال فى لبنان وتونس، وربما السلطة الفلسطينية والجزائر ــ وفى غياب الصراعات الأهلية أو النزاعات المسلحة الداخلية. ولكن حتى فى هذه البلدان، فإن التعديلات الجزئية التكنوقراطية لا تكفى لإنتاج قطاع أمنى حديث وخاضع إلى المساءلة. وبعيدا عن الأطر القانونية الرسمية، تعمل الحواجز التى تحول دون تنفيذ عمليات التدقيق الفعالة، على منع رصد التدفقات المالية إلى داخل أجهزة الشرطة والأمن الداخلى. علاوة على ذلك، غالبا ما تكون مثل هذه المؤسسات قادرة على تحييد التدريب على مكافحة الفساد لتواصل الأنشطة غير المشروعة كالمعتاد.


ولهذا، لابد من إزالة حجاب السرية الذى يحيط بالقطاعات الأمنية، لكى يُتاح إصلاح قطاع الأمن والشرطة فى الدول العربية بصورة فعالة. غير أن اليمن هو الوحيد بين الدول العربية الذى أعد قانونا لحرية المعلومات بعد عام 2011. وفى المقابل، عملت مؤسسات عدة فى الدولة فى مصر على إعاقة اقتراح تَقَدم به الجهاز المركزى للمحاسبات فى مصر لاستنان تشريع ينص على حق المواطنين فى الحصول على المعلومات بشأن الفساد.


***


والمشكلة كما ترى الباحثة المصرية دينا الخواجة هى أنه قد يكون من المستحيل «فرض الإصلاح على أساس فاسد بنيويا». والمطلوب هو الإشراف الفعال والشامل على المقتنيات العامة، والشفافية الأكثر اكتمالا بشأن الميزانيات والإجراءات الروتينية، وتحسين مراقبة الحدود من قِبَل أجهزة متعددة بهدف تفكيك الشبكات غير المشروعة التى يتورط فيها أفراد من قطاع الأمن. وقد أثبتت دول عربية مثل الأردن أن المستويات المنخفضة من الفساد فى قطاع الأمن تساعد فى تمكين التوصل إلى نتائج مهمة، حتى فى بيئة عصيبة تشمل حدودا طويلة، وسوق سوداء واسعة تتغذى من الحروب فى الدول المجاورة، وأعدادا كبيرة من اللاجئين.


علاوة على ذلك، تتطلب الإدارة الفعالة لقطاع الأمن توفُر الإرادة السياسية الثابتة من أعلى المستويات الحكومية، وبشكل خاص الاستعداد لدفع الإصلاحات الموازية التى يتفاعل معها قطاع الأمن. والواقع أن تغييرا بهذا الحجم من شأنه أن يثير قدرا كبيرا من النزاع والجدال، ومن غير السهل التنبؤ بمساره ونتائجه أو توجيهه، حتى لو توفَرت إرادة حكومية عازمة.


يكشف ذلك عن مفارقة كأداء: إذ شهدت الدول العربية التى حاولت أن تنتقل إلى التعددية السياسية انقسامات مجتمعية حادة وعميقة حول طبيعة عمل الشرطة والغرض منه. فأدت الانقسامات بلا استثناء إلى تعقيد عملية الإصلاح. ولا تشكل مطالبة البعض بقيام الشرطة بإنفاذ القيم الدينية سوى مثل من بين أمثلة عدة على ذلك.


***


تتفاوت ديناميكيات إصلاح قطاع الأمن بحسب أنماط العمل الشرطى السابقة والظروف التى تخضع فيها السلطات إلى التحديات التى تضطرها إلى سلوك مسارات جديدة. والواقع أن غالبية الناس إما يتطلعون حتى الآن إلى الدولة وأجهزتها المفوَضة رسميا بحل المشكلات وتوفير احتياجات إنفاذ القانون الأساسية، أو يفضلون التطلع إليها لو أُتيح ذلك، بدلا من اللجوء إلى الأطراف البديلة غير الدولتية لتوفير الأمن «أو كما هى الحال غالبا الخضوع إليها»، ما يمنح الدولة شرعية قوية للضلوع بعملية الإصلاح. لكن وعلى الرغم من أن هذا الشعور من شأنه أن يسهل عملية الإصلاح، كانت الانقسامات فى العديد من المجتمعات العربية على مدى العقدين الماضيين سببا فى إعاقة التوصل إلى الإجماع، بشأن كيفية إعادة هيكلة وإصلاح الشرطة. وقد أدى تهميش ما قد يصل إلى 40 فى المئة من السكان، الذين يعيشون عند خط الفقر أو ما دونه، إلى صعود تحديات لنُظُم الحكم برمتها، فى حين أدى أيضا إلى إخضاع قطاعات اجتماعية كاملة إلى الاستهداف من قِبَل الأجهزة الأمنية الرسمية.


كما يؤثر الإصرار على سحق المعارضة على الطبقات المتوسط الحضرية، التى يُفترض بها لولا ذلك أن تكون أشد المناصرين للإصلاح فى هذا السياق، كما تُظهِر حالتا مصر وسوريا. وتوحى الطبيعة الطائفية لقطاع الأمن فى العراق والاستقطاب الحزبى فى السلطة الفلسطينية بمخاطر مماثلة.
يُضاف إلى كل ذلك أن الانهيار السياسى والدستورى الشديد والتفتت الاجتماعى والمؤسَسى واسع النطاق، يعيقان الإصلاح إن لم يمنعاه تماما، فى بلدان مثل ليبيا واليمن. وحتى فى مصر، ذات الدولة شديدة المركزية والبيروقراطية، يتم تفويض بعض المهام الشرطية والأمنية فى المناطق الريفية أو المهمشة من البلاد، ليس للبلطجية وحسب، بل أيضا لأتباع الحزب الحاكم السابق والعُمَد وشيوخ العشائر.


من الواضح أن إضفاء الطابع الرسمى على عمل الشرطة وحل المنازعات على أساس العشيرة أو الطائفة أو الهوية الإثنية ــ كما هو الحال لدى الميليشيات الثورية فى ليببيا، أو ميليشيات الحشد الشعبى الشيعية أو الحشد العشائرى السنية فى العراق، أو الميليشيات الحزبية الطائفية فى لبنان ــ من شأنه أن يكون ضارا لتماسك الدولة ووحدتها. لكن التركيز فى الماضى على القطاعات الأمنية التى تُدار مركزيا جعلها أصولا بالغة الأهمية فى المنافسات السياسية، ما مكَنها من الإفلات من الرقابة والاستفادة من الحصانة القانونية بحكم الأمر الواقع. فالأمر يتطلب إذا إيجاد توازن أفضل لتخفيف مخاوف القوى الاجتماعية والسياسية المتنوعة، التى تشكل مشاركتها ضرورة لتجديد الأطر الدستورية، وتعزيز سيادة القانون، وإحياء الهوية الوطنية ومؤسسات الدولة فى سياق التحول الديمقراطى.


***


خلاصة الأمر أن إصلاح قطاع الأمن لا يمكن عزله عن العملية الأوسع المتمثلة فى التحول الديمقراطى والمصالحة الوطنية. وتكتشف الدول العربية التى تمر فى مراحل انتقالية الآن مدى صعوبة إحلال الديمقراطية المستدامة محل الممارسات والعلاقات الاستبدادية الراسخة، وهى العملية التى تعتمد بشكل حاسم على تحويل قطاعاتها الأمنية. كما أن التركيز المتزايد على مكافحة الإرهاب يُعيق أيضا سبيل الإصلاح، على الرغم من ثبات عدم كفاءة القطاعات الأمنية التى لم تخضع إلى الإصلاح فى إنجاز تلك المهمة كذلك، كما تدل تجربتا مصر وتونس بوضوح شديد.
يتعين على المنادين بالديمقراطية وبإصلاح قطاع الأمن أن يُظهِروا وحدة الهدف بثبات، وأن يبنوا الإجماع المجتمعى والائتلافات السياسية حول برامجهم، وأن يصوغوا السياسات المتماسكة والمستدامة. وآنئذ فقط يصبح من الممكن حل المعوقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تقف فى طريق بناء أجهزة الشرطة والأمن الحديثة والخاضعة إلى المساءلة.

يزيد صايغ

التعليقات