لم تكن نشأة نظام النقد الدولى سوى انعكاس لواقع جديد أفرزته الحرب العالمية الثانية، وهو انقضاء عصر القوى التقليدية الأوروبية وظهور قوة كبرى مهيمنة هى الولايات المتحدة الأمريكية والتى تصدرت العالم كقوة فاعلة مهيمنة، محاطة ومتحالفة مع القوى الأوروبية الغربية التى وجدت فيها منقذا فى زمن الحرب وحليفا لا غنى عنه فيما بعد الحرب.
وبعد أن انقشع غبار المعارك الطاحنة على الساحة الأوروبية، تبين أن القارة الأوروبية قد فقدت نسبة كبرى من قدراتها الإنتاجية على مختلف الأصعدة، مع دمار واسع النطاق فى الطرق والسكك الحديدية والمطارات والمرافق العامة والمصانع والمنشآت والمبانى، بالإضافة إلى نقص شديد فى المواد الاستهلاكية والأغذية، والأخطر والأهم كان أن دول القارة الأوروبية قد خرجت من الحرب وهى مثقلة بالديون للولايات المتحدة فى مقابل ما حصلت عليه من مواد عسكرية وصناعية وغذائية طوال سنوات الحرب.
كانت الدول الأوروبية تواجه معضلة حقيقية آنذاك، وهى كيف تقف اقتصاداتها على قدميها من جديد بعد ما أصيبت به من دمار؟ وكيف يمكن القيام بإعادة الإعمار وبناء ما تهدم ومعاودة الإنتاج فى الوقت الذى يحتاج فيه ذلك كله إلى المواد الخام والطاقة والمستلزمات الأخرى؟ وكيف يتأتى ذلك وقد أنهكت الحرب قواها واستنزفت مواردها، بل وباتت موازين مدفوعاتها فى حالة عجز متصل، مع تراجع احتياطاتها النقدية الدولية والذهبية.
فى ذات الوقت كان الحليف الأمريكى على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطى سالما تماما، وباستثناء عملية بيرل هاربور لم تتعرض الأراضى الأمريكية لقذيفة واحدة ولا حتى طلقة رصاص واحدة طوال سنوات الحرب، وخرجت الولايات المتحدة من الحرب منتصرة ولم تلبث أن عدت بالاعتبارات السياسية أقوى قوة فى العالم، أما اقتصاديا فقد كان الاقتصاد الأمريكى فى أوج ازدهاره وبلغت مستويات الإنتاج والتوظف فيه مستويات قياسية غير مسبوقة بعد أن باتت الولايات المتحدة هى مصنع إنتاج الاحتياجات العالمية من السلاح والمعدات والمنتجات طوال سنوات الحرب، فخرجت الولايات المتحدة من الحرب وهى أكبر دولة دائنة فى العالم، وبحوزتها فعليا ثلثا الذهب فى العالم.
• • •
كان السياسيون والاقتصاديون الأمريكيون يدركون ذلك الوضع الذى باتت عليه الولايات المتحدة، ولذلك فقبل انتهاء الحرب وبعد أن لاحت فى الأفق تباشير النصر، دعت الولايات المتحدة ممثلى 44 دولة للاجتماع فى مدينة بريتون وودز عام 1944 لبحث ترتيب العلاقات النقدية الدولية بعد الحرب، ووضع نظام جديد لها، وبالطبع كان النظام النقدى العالمى الجديد سيأتى كانعكاس لواقع القوة الأمريكية الصاعدة المهيمنة.
فى بريتون وودز تقدم هارى وايت مستشار الرئيس روزفلت بمقترح مشروع لتأسيس صندوق نقد دولى لتثبيت قيمة العملات للدول الأعضاء فى الصندوق، وأن تكون وحدة التعامل الدولى هى اليونيتاس وهى وحدة حسابية نقدية ترتبط بوزن معين من الذهب، ولما كانت الولايات المتحدة تعمل بنظام الصرف بالذهب، مع قابلية تحويل الدولار إلى ذهب فى المدفوعات الدولية، فسيكون الدولار هو العملة المستخدمة للنظام وآلياته.
وتم تأسيس صندوق النقد الدولى، وتقرر أن القيمة التبادلية لعملة الدولة العضو سيعبر عنها بالذهب أو بالدولار الأمريكى بقيمته فى الأول من يوليو 1944، ولما كانت الولايات المتحدة قد تعهدت بالتزامها قابلية تحويل الدولار لدى البنوك المركزية إلى ذهب على أساس 35 دولار للأوقية، وقبول الدول الأعضاء فى الصندوق بذلك، فقد تحقق بذلك القبول العام للدولار كعملة احتياط دولية، فى ظل اطمئنان الدول إلى ما لدى الولايات المتحدة من احتياطات هائلة من الذهب، والتزامها بتحويل الدولار الورقى إلى ذهب.
لم يكن أمام الدول الأوروبية سوى القبول والإذعان لمقررات نظام النقد الدولى الجديد، بل وقامت بعد عام 1945 بتصفية جانب كبير من استثماراتها الخارجية فى الولايات المتحدة واستخدام تلك الأموال فى سداد مدفوعات ديونها ودفع قيمة وارداتها، كما لجأت إلى استخدام جانب كبير مما تبقى لديها من الاحتياطيات الذهبية واستخدام حصيلتها فى تمويل الرصيد المدين فى ميزان المدفوعات مع الولايات المتحدة، فتدفق المزيد من الذهب إلى الولايات المتحدة، وفى ذات الإطار لجأت إلى الاقتراض الخارجى من الولايات المتحدة، واستمرت رغم كل ذلك فى معاناتها من ندرة الدولار فى ظل متطلبات هائلة لإعادة الإعمار لم يكن بإمكانها تدبيرها.
• • •
من جهتهم كان الاقتصاديون الأمريكيون يواجهون سؤالا هاما يتمثل فى كيفية الحفاظ على مستوى الإنتاج والنمو والتوظف الذى حققه الاقتصاد الأمريكى طوال سنوات الحرب، ولا سيما أن الطلب على الإنتاج الحربى الأمريكى قد تراجع بعد الحرب، وباتت العديد من المصانع الأمريكية فى مختلف المجالات والقطاعات تسعى لتصريف وتسويق إنتاجها الهائل الذى درجت على إنتاجه طوال سنوات الحرب، والذى يهدد تراكمه وعدم تصريفه وتسويقه بفقدان الولايات المتحدة ذلك المستوى الهائل من التوظف والدخل والنمو، فى تلك المرحلة ظهر مشروع مارشال ليحقق هدفين مزدوجين كبيرين أولهما خدمة الاقتصاد الأمريكى فى هذا الشأن، وثانيهما إعادة إعمار القارة الأوروبية والحفاظ على الحلفاء ودعمهم من خلال القروض الميسرة والمساعدات والمنح، كما غضت الولايات المتحدة الطرف عن قيام الدول الأوروبية بإجراء تخفيضات فى قيمة عملاتها برغم مخالفة ذلك لاتفاقية بريتون وودز.
وهكذا ومع بداية عقد الخمسينيات كانت الاقتصادات الأوروبية قد تعافت إلى حد كبير من تداعيات الحرب، وعادت قدراتها التنافسية والإنتاجية إلى النمو، وفى ذات الوقت ظهر عجز الميزان التجارى الأمريكى لأول مرة عام 1950 واستمر طوال الخمسينيات، لكن ذلك كان مسألة ثانوية للولايات المتحدة إذ كان تحالفها مع أوروبا والعمل على تنميتها ودعمها محوريا فى استراتيجيتها الكونية فى مواجهة الكتلة الشرقية، ومن جهتها كانت أوروبا والعالم مطمئنين إلى أن احتياطيات الذهب الأمريكية كانت ضخمة وتفوق ما لدى البنوك المركزية من دولار، وبات الدولار عملة الاحتياط الدولية الممكن تحويلها إلى ذهب بثقة واطمئنان، بل وصل الأمر إلى أن الدول لم تسع لتحويل ما لديها من دولار إلى ذهب، وفضلت استثمار دولاراتها فى السندات والأوراق المالية قصيرة الأجل لتحقيق عائد منها.
فى ظل هذه الأجواء من الثقة والازدهار توسعت الاستثمارات الأمريكية فى أوروبا وتدفقت مليارات الدولارات فى كافة المجالات والقطاعات وشراء الشركات، لكن ذلك فى حد ذاته كان سببا من أسباب العجز فى ميزان المدفوعات الأمريكى، وبنهاية عقد الخمسينيات بدأت الدول الأوروبية واليابان تقلص استيرادها من المنتجات الأمريكية، وأخذت المنتجات الأوروبية تتقدم لتنافس المنتجات الأمريكية فى الأسواق العالمية، ومن جهة أخرى كان الإنفاق العسكرى الأمريكى لتمويل الحروب ونفقات القواعد العسكرية الأمريكية قد تزايد بشدة مع تصاعد المواجهة مع الاتحاد السوفييتى والكتلة الشرقية، وبات الدولار متاحا بفائض عرض كبير لدى العديد من الدول.
فى تلك المرحلة أعلنت 14 دولة أوروبية حرية تحويل عملاتها، وتوجه الكثير من البنوك المركزية الأوروبية لتحويل ما لديها من دولار إلى ذهب، الأمر الذى ترتب عليه انخفاض الأرصدة الذهبية النقدية الأمريكية بمقدار خمسة بلايين دولار خلال عامى 1958ــ1960.
وفى ذات الوقت كان إلغاء الدول الأوروبية القيود على المدفوعات الخارجية الجارية محفزا للشركات الأمريكية متعددة الجنسية للاستحواذ على المزيد من الشركات الأوروبية، فتدفق المزيد من الاستثمارات الأمريكية إلى أوروبا خلال السنوات الخمس التالية بما قدر بنحو 16 بليون دولار، الأمر الذى فاقم عجز ميزان المدفوعات الأمريكى، لكن ذلك لم يكن مهما إذ أن الولايات المتحدة قد تمكنت بأوراق الدولار من تملك الشركات والأصول الإنتاجية فى العديد من الدول فى أوروبا والعالم.
ووصف أحد الاقتصاديين الأمريكيين ذلك بقوله: من دواعى السرور أن يكون لدى الولايات المتحدة فى فنائها الخلفى مطبعة للعملة الورقية، فمعيار الذهب التبادلى بالدولار قد منحنا هذا الامتياز بمقدار لا يقل عن جنوب أفريقيا (أكبر منتج للذهب فى العالم آنذاك).
وهكذا ظلت الأمور تسير بنظام النقد الدولى وبالاقتصاد الأمريكى سيرا حسنا إلى أن قدمت تلك المرحلة التى أدركت فيها العديد من الدول الأوروبية أن بريق الذهب الحقيقى أفضل من ملمس الدولار الورقى، وأخذت العديد من البنوك المركزية تتكالب على تحويل ما لديها من دولار إلى ذهب على نطاق واسع، الأمر الذى فرض لأول مرة تحديا حقيقيا لنظام النقد الدولى القائم.