يقال هذه الأيام، إن فلانا قد (غرّد خارج السرب) أى قال بما ليس مشتركا، بطريقة كافية مع الآخرين كأنه يتحدث لوحده، بدون شريك. وسوف أحاول اليوم، فى هذا المقال الموجز، أن أجرب تغريدا خارج السرب لعلّه يسهم فى إيقاظ وظيفة التنبيه الذهنى إلى قضايا غير مطروحة فى الأغلب الأعم، سواء من حيث نوعيتها أو محتواها الفكرى.
وقد تلفتُّ حولى فوجدت عجبا من العجب، حيث قضايا مثيرة لأقصى درجات التنبّه الفكرية، ولكن لا مجيب على نفس القدر من الاهتمام الواجب. ولربما يبدو ما سنقدمه هنا غريبا بل لعله بالغ الغرابة، ولكن لما لا، أليس الغريب هو عنوان الفرادة فى عالم فريد؟
وندلف من هذا الباب إلى قضايا متنوعة، بالغة التنوع، بل ربما متنافرة، نشير منها إلى لمحات مقتضيات لعلها توفى بما تستحق من اهتمام.
●●●
أولى القضايا التى أريد بث «إشارات وتنبيهات» إليها، تتصل اتصالا وثيقا بالكائن البشرى أو الإنسان. فما الإنسان؟ وهل له طبيعة ثابتة أو شبه ثابتة على مرّ الأزمان، أم هو قُلّب «حُول»، كما يقولون؟ وإن كانت له طبيعة فما حقيقتها الظاهرة والباطنة؟ أما إن لم تكن له طبيعة فما هى يا ترى البنية الثانوية فيه، الساكنة أو المسكونة، حتى نفهم ما وراءها من أسرار خلف الحُجُب.
ولا يمكن الادعاء بتقديم إجابة قاطعة على سؤال «الطبيعة الثابتة» مقابل الظاهرة المتغيرة.. ولكن فلنحاول ذاك، من واقع تأمل مسيرة زمانية بألف سنة تقريبا، لعل أهمها خمسة عشر ألف سنة فى هزيع «ثورة العقل» البشرى.
ويبدو لنا، برغم تعاقب الدورات الحضارية، إنتاجية ومجتمعية، من حياة الصيد والرعى، إلى الزراعة، ثم الحرف، فالصناعة والتصنيع، ثم التكنولوجيا الحديثة، إن ما يسمى الإنسان لم يتغير، أو لعله لم يتغير كثيرا بما يواكب تطوره الحضارى المهارى.
فالأنانية المفرطة هى ديدنه المسيطر فيما يبدو، والميل المتآصل إلى بزْ الآخرين، بحق أو بدون حق، وخوض الأهوال أو ما يسمى الحروب فى سبيل ذلك، وليكن ما يكون. فى قلب هذا المعمعان بالطبع، انبعثت النزعات الأخلاقية الفلسفية ثم الدينية، وأخيرا العلموية فى محاولة لتهذيب غير المهذب.. ولكن هيهات..!
صراع وتطاحن لا يكاد يهدأ حتى يثور ثورانا، على فتات الحياة الحسية، وسعى إلى التغرد والغلبة بغير مبرّر يستاهل تبريرا واجبا، ولننظر حواليك الآن، فى الربع الأول من القرن الحادى والعشرين بعد الميلاد، فهل تجد فارقا جوهريا فى سلوك هذا الكائن الرجراج؟ وهل ترى فارقا نوعيا حقا بين صراعات ما يسمى الدول أو القوى العظمى المعاصرة، وبين ما سبقتها عبر ألوف السنين؟
هذه إذن لمحة من حقيقة أولى أجدها ظاهرة للعيان من أمامنا، وهى أن هذا الكائن لم يتغير تقريبا.. ولعلى أقول إنه لن يتغير..؟ ومن يدرى..؟ لن أقول ذلك، فثمة وجه آخر للحقيقة لا يخفى على الأريب، وهو أن ذلك الإنسان لا يلوى على شىء، بل يقفز قفزا ليوصى بتغيير جذرى فى طبعه ربما، أو تطبّع سعيا إلى الزراعة، فالحرف، فالصناعة والتصنيع الحديث، والتكنولوجيا حتى حدود ما يسميه الثورة الرابعة راهنا، متنقلا بخفّة ومهارة إلى عوالم ما يسميه الآن الذكاء الاصطناعى.
بيْد أنه فى قلب خفّة ومهارة الثورة الرابعة وذكائها المسيطر، يتحيّر الكائن المحتار، فيختار ما يريحه، من محاولة التقدم صُعُدا على ذات سُلّم التطور الحضارى الحسى، فإذا هو يذهب نحو محاولة تجاوز القيود المكبلة لطبيعته أو تطبعّه، سعيا إلى تجاوز الإنسان إلى ما هو السوبر مان..! إن صحّ التعبير.
وها هى الأحداث تترى هذه الأيام فى محاولة منه للإيماء بخلق واقع جديد، قوامه التفوق على النفس سعيا، ربما، لتجاوز الطبيعة والتطبّع إلى آفاق سحرية تعيد خلق صورة نورانية غير إنسانية بمعنى ما، من خلال ما يسمى تطبيقات تحاكى الوهم المنشود، وننشر صورة زائفة لكائن جديد.. وما هو بجديد..!
ويلحق بذاك، حقيقة ظاهرة هذه الأيام، هى محاولة لاهثة لضبط أو حوكمة «الذكاء الاصطناعى»، بلغة هذه الأيام. ويدعو البعض إلى محاولة كبح الحركة الجامحة للابتكارات من خلال، ولو أخذ هدنة فكرية لالتقاط الأنفاس قبل تفجير الذكاء البشرى من داخله.
فهل محاولة «حوكمة الذكاء»، تخلق ذكاءً جديدا حقا، أى إنسانا غير الإنسان؟ هذا ما لا نراه، فلا نرى إلا محاولات لاهثة، لعلها يائسة، لجعل الإنسان، إنسانا مختلفا فى الدرجة وليس فى النوع. فكأنها أنسنة من نوع خاص، تأبى إلا أن تعيد تجديد ما هو قديم، أو كما يقال شراب قديم فى قوارير جديدة.
وما الفائدة حقا على النوع البشرى من خلق عوالم قائمة على الذكاء المصطنع، ولكن على قاعدة من الأنانية المفرطة، والعنف، وبله الحرب دون هوادة عبر الزمان؟
●●●
القضية الأخرى المهمة المتصلة بما سبق اتصالا وثيقا، ونريد أن نلمسها لمسا خفيفا، فهى تتعلق بوهم ما يسمونه الحرية أو الديموقراطية، باسم ما أطلق عليه اليونان الأقدمون أو أطلق عليهم، (حكم الشعب بالشعب من أجل الشعب).
هذا ربما وهم آخر يترى لينحدّر، وما هو بذاك. وعبر مراحل التاريخ البشرى تم تسويق الوهم الحمدماتى حتى آخره هذه الأيام، ما ذروا أنهم يعمقون شرخ «التكوين البشرى الراجراج». ولنسمح لأنفسنا بالقول إنه ما يدعونه الديمقراطية لا يمكنه التحقق جوهرا إلا من خلال تجاوز النهج الإنسانى التاريخى عبر ألوف السنين الأخيرة، وما ذاك بمستطاع إلا بجهد جديد يتجاوز كل ما يمكن أن يتخيله بشر!
والأوْلى، عن وجهة النظر هذه، أن يتخلى «قادة الإنسان» الراهن عن «الوهم»، ليؤكد على استقرارية واستقلالية وعيه..! أما الحرية.. وإما الديموقراطية فهذا شأن آخر، قد يقترب شبحه أو يبتعد مع لولبية الزمان.
فيتركز الجهد الدءوب إذن على محاولة تطويع الإنسان، لعوالم ما بعد الإنسان عبر تهذيب الغريزة، وهزيمة الطبيعة، وتكييف التطبّع العنيد..! أما بيع الوهم باسم الحرية والديموقراطية، تدرجا إلى ما يسمى بسماع صوت الشعب عبر ما يسمى بالتصويت أو الانتخاب فلن يجدى فتيلا فى حد ذاته، إلا من رحم ربى.
●●●
حقيقة ختامية، لعلها تلقى ضوءًا كاشفا على ما سبق وهى تدافع القوم الآن هنا وهنالك، على التسابق نحو الغلبة الكاذبة غير الإنسانية بالمعنى الحقيقى. وانظر فى ذلك إلى ما يجرى فى هذه اللحظات عبر بلداننا، خاصة فى منطقتنا العربية، مشرقا ومغربا، من تهافت على العنف والحرب، لجنى الثمرات اليافعة الكاذبة، اتصالا بسلسلة المنح والمنع، من هنا وهنالك دون رقيب.
وعدا عن حقبة ما يسمى بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع تسعينيات القرن المنصرم (1945 ــ 1990) حين تكوّن عالم «يشى بالخضوع للغة القانون الدولى والمنظم الدولى الجماعى، وثنائية القطبية ــ عدا عن ذلك، لم نجد ولا نجد إلا «التكالب» وإعادة تجديد مسيرة الهيمنة مع تبدل الوجوه، ولو كان ذلك تحت مسمى الأنسنة..! وانظر مثلا إلى ما يحدث فى هذه اللحظات فى بعض بلداننا العربية، دون تسمية، فهل تجد فى ذلك علامة تشى بإنسانية حقة مرتجاة..؟
لن نخوض فى تفاصيل المأساة أو الملهاة الجادية من حولنا فتلك ربما لا تستحق إنعام النظر الجاد، إلا من زاوية قلب الصفحة نحو محاولة بناء إنسانية مفقودة.
ولكن هيهات..! وفى النهايات أخيرا، أعلم أننى قد أكون تجاوزت حقىّ فى التفكير، ولكننى أرجو السماح والمعذرة، فما أردت إلا حفز هذا التفكير نحو أفق غير مطروق.. فهل هذا بمستطاع حقا..؟!