قرأت كتاب السوريالية فى مصر للأستاذ سمير غريب قبل ان أراه، فأحببت الكتاب وصاحبه واعتبرته عملا فريدا من النادر ان يتكرر لأنه قاد عقلى لاسماء وقضايا كانت فى هوامش الثقافة المصرية فأعادها بجرأة للمتن ولا أزال اشترى نسخا من الكتاب كلما وجدته مع باعة الكتب القديمة، وحتى عندما انتقده الراحل العظيم بشير السباعى وكان من معلمى الكبار الذين أثروا فى تكوينى رأيت فى النقد الدليل الأكبر على أهمية الكتاب، لأن السباعى لم يكن يعطى وقته الا لما يستحق.
وحين عرفت الاستاذ سمير بشكل مباشر كان فى عز مجده الوظيفى مديرا لصندوق التنمية الثقافية الذى أسسه بقواعد جديدة ووجوه ناصعة مِن ابناء جيلى الذين صاروا اليوم كوادر لها وزنها فى وزارة الثقافة وكنت أيامها صحفيا شابا ابحث عّن خبر هنا او هناك وأفتش وراء الأسماء ذات النفوذ بحثا عّن قضية تصلح لتحقيق صحفى يلفت النظر.
وكان نشاطه مثيرا للشهية التى تغرى أى صحفى لمتابعته بأمل الوصول إلى ثغرة ينفذ منها لذلك ظل دوما هدفا مثاليا للصحافة التى جاء منها واحترم مهمتها فى نقده فلم يغضب او يكره وهذه واحدة مِن المميزات التى ظلت لديه حيث لم يقطع ابدا «خيط معاوية» الذى يربطه بالناس ويواصل السؤال عنهم بمحبة كاملة بعد أن انفض مولد المناصب وحسابات الولاء.
وكان أكثر ما يلفت نظرى فى المواقع الكثيرة التى أدارها اعتماده على الشباب بشكل مطلق وهذه ميزة ساعدته دوما على ان يجدد أفكاره.
وعندما اختارنى لمناقشة كتابه الجديد (خلود المحبة) الذى صدر عّن هيئة الكتاب بمكتبة القاهرة قبل شهرين فرحت لاننى كنت اصغر المناقشين سنا وأقلهم خبرة ومعرفة فقد جاورت الوزير السابق الصديق العلامة الدكتور شاكر عبدالحميد والدكتور سعيد توفيق أستاذ علم الجمال البارز والكاتب صلاح منتصر وكان أول ما لفت نظرى فى كتابه تقاطعه فى الموضوع وطريقة البناء مع رائعة الكاتب العظيم يحيى حقى (عطر الأحباب) وذلك بغرض احياء ذكرى اصحاب الفضل فى تكوين وجدانه وهو تقريبا ما سعى اليه سمير غريب وربما قاده الشغف نفسه نحو بناء سردى متدفق يجمع فى كتابه بين قضايا الآداب والفنون مع أطياف لسيرة ذاتية مضمرة تشير لشغف صاحبه بما بعد الحداثة وفنونها التى تتأسس على معنى التجاور.
وطالما أن للمرء نصيبا من اسمه فإن السمة المركزية فى الكتاب تنطلق من سعى (سمير) لتأكيد طابع المسامرة فى النص الذى لا يحتفى الا بالمحبة وخلودها ولا مجال فيه للنميمة او تصفية الحسابات رغم ما فيه من إشارات تثير شهية القارئ لكشف ما يتجنبه النص وربما قصد سمير غريب ذلك وتعمد القفز فوق المرارات ليستعيد فى قلمه روح الناقد المتأمل بعد سنوات من تحمل أعباء المناصب والتمتع بمزاياها ايضا.
والكتاب إجمالا استعادة لمهامه المؤجلة منذ ان تصدى قبل الجميع لكتابة تاريخ السوريالية المصرية (فى منتصف الثمانينيّات ) والتى أثمرت عن كتب اخرى منها (حيوية مصر) و(راية الخيال) وكتابه اخر عّن الفنان (سمير رافع).
وقد فعل ذلك بمساعدة ودعم الشاعر العراقى البارز عبدالقادر الجنابى الذى قاده لهذا الدرب الطويل وتكاد تكون حكاية غريب مع السوريالية هى الخلية النواة فى الكتاب لأن كل ما يرد فيه من اسماء وحكايات ممتعة هو صدى لهذه التجربة التأسيسية التى صنعت اسم صاحبها المهموم دوما بتصحيح الوقائع والتواريخ ولفت النظر لاصحاب الأدوار الكبيرة فى صياغة الوجدان المصرى وتاريخه ولا يفرق فى مسعاه بين جورج حنين وشادى عبدالسلام وصلاح عبدالصبور وحلمى سالم او جمال بكرى أو الثنائى عادل رفعت وبهجت النادى المعروفين فى الحركة الشيوعية باسمهما المستعار (محمود حسين) واحسب ان الكتاب هو اول اشادة بدورهما تأتى من خارج ثقافة التنظيمات، وبالتالى فهى اعتراف متحرر من سطوة الايديولوجيا رغم (النبرة اليسارية) التى لم يشأ المؤلف أن يتخلص منها.
ورغم اعترافه بعدم الولع بكتابة المراثى الا ان الكتاب تورط فى تحقيق الهدف بامتياز بدافع الوفاء وللتأكيد على صحة هدفه فى «خلود المحبة».