وقع المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطنى الليبى، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبى، اتفاقا يوم 6 يونيو الماضى فى القاهرة بحضور الرئيس السيسى، وصفه السيد الرئيس بأنه اتفاق ليبى ــ ليبى لتحقيق السلام والاستقرار فى ليبيا.
ومن أهم ما جاء فى هذا الاتفاق بند ينص على ضرورة قيام الأمم المتحدة والمجتمع الدولى بإلزام كل الجهات الأجنبية بإخراج المرتزقة من جميع الأراضى الليبية.
يأتى ذلك بعد أن عاثت المرتزقة فسادا وتدميرا فى ليبيا وصارت سببا رئيسيا لعدم الاستقرار والفوضى فى البلاد وأصبحت تهدد وحدة البلاد وسلامتها.
ولم يقتصر شر المرتزقة على ليبيا وحدها، بل امتد شرهم على اتساع العالم العربى، تحركهم أياد أجنبية كقطع الشطرنج على الرقعة، فهم تارة فى العراق ثم ينتقلون إلى سوريا ومنها إلى اليمن ليعيثوا فسادا ويشعلوا نيرانا أينما حلوا.
من هم هؤلاء المرتزقة؟ لعل المرتزقة هى ثانى أقدم مهنة فى التاريخ ولعلها تتنافس مع أصحاب أقدم مهنة على المركز الأول فى أرذل وأحط مهنة فى التاريخ.
ويمكن تعريف المرتزق بأنه من يبيع ولاءه وسلاحه لمن يدفع أكثر فيحارب من أجل المال دون عقيدة ودون إيمان، وتجده يحارب اليوم مع طرف ومع الطرف الآخر غدا لأنه دفع له أكثر، ولعل الأخطر والأحط فى المرتزقة أنه عادة لا يحارب مقابل أجر محدد ولكن مقابل أن تطلق يده فى السلب والنهب والتدمير والاغتصاب.. ويكون حلول جحافل المرتزقة كحلول أسراب الجراد التى لا تبقى ولا تذر ولا تترك إلا خرابا ووبالا. وذكر المرتزقة منذ أزمنة طويلة وفى حضارات متباينة، فاستخدمهم رمسيس الثانى فى مصر القديمة واستُخدموا فى اليونان القديمة وروما وفى حضارات عديدة أخرى.
***
يرجع أسباب استخدام المرتزقة إلى أسباب عديدة أهمها مثلا فقدان الثقة بين الملوك والحكام وبين شعوبهم، فيفضلون استخدام وتسليح الأغراب لاستخدامهم فى إخضاع الشعوب. وأبرز الأمثلة على ذلك المماليك فى مصر الذين عملوا على نزع سلاح المصريين وأيضا هناك ارتخاء الانضباط فى الجيوش النظامية وعدم القدرة على تمويلها فى وقت السلم فيلجأ الحكام إلى جلب المرتزقة وقت الأزمات.
ومن الأسباب أيضا عجز الإمكانات البشرية للدولة عن تغطية طموحات الحكام فى حشد القوات المطلوبة فيعمدون إلى تغطية العجز بالمرتزقة. ولعل الدولة العثمانية فى بدايتها تعطى مثالا على ذلك فتشير الوثائق إلى أن جيش محمد الفاتح الذى فتح القسطنطينية كان ثلثه من المرتزقة، ورغم أنه كان يرفع راية الإسلام فى حربه مع المسيحية فإن معظم هؤلاء المرتزقة كانوا من دول أوروبا المسيحية، مما يؤكد أن المرتزقة ربهم وإلههم هو الذهب بعيدا عن العقيدة أو الدين.
***
ويعطينا التاريخ أيضا مثالا للمجتمعات التى ترهلت بسبب الرفاهية التى لم يعد سكانها قادرين أو راغبين فى الحياة العسكرية لحماية ثرواتهم، والمثال على هذا الحالة هو فى مدن وجمهوريات إيطاليا فى عصر النهضة وأطلقوا عليهم اسم Condottieri وهى كلمة مشتقة من كلمة كونتراتو نسبة إلى تعاقدهم مع الحاكم، ولكن كما فعل المماليك مع الأيوبيين وبعد أن وطد الكونتيتيرين قوتهم استولوا على الحكم ونصب قائدهم Francesco Sforza نفسه دوقا لميلان فى عام 1450. وكانت حرب الثلاثين عاما فى أوروبا هى العصر الذهبى للمرتزقة بسبب طول مدة الحرب خلال الفترة من 1618 إلى 1648 واتساع نطاقها لتشمل أوروبا بأسرها. ورغم أنها كانت أساسا حربا بين جيوش كاثوليكية وأخرى بروتستانتية إلا أن عقيدة المرتزقة كانت الركوع لبريق الذهب، محارب المرتزقة الكاثوليك فى صفوف البروتستانت والعكس. وفى القرن الـ18 استندت بريطانيا قاعدة جديدة للمرتزقة، فبدلا من التعاقد مع المرتزقة مباشرة تم التعاقد مع شركة الهند الشرقية لنهب ثروات الهند لصالح التاج البريطانى وسمحت للشركة بتكوين جيش لممارسة العنف لصالح الشركة ولصالح التاج.
***
مع بداية القرن الـ20 ظهر مبرر جديد للاستعانة بالمرتزقة وهو رغبة الدولة فى إخفاء تدخلها لإخفاء مطامعها وتجنب الحرج على الساحة الدولية، وكانت الولايات المتحدة سباقة فى هذا الصدد باستخدام من صاروا يعرفون برجال الموز Banana Men وهم من المرتزقة الذين استخدموا لإخضاع جمهوريات أمريكا الوسطى لصالح شركة الفواكه المتحدة United Fruit Company. واستمر نشاط الولايات المتحدة فى مجال المرتزقة فأرسلتهم إلى دول أمريكا الجنوبية خاصة كولومبيا وتشيلى وكان لهم دور رئيسى فى مغامرة خليج الخنازير الفاشلة.
وراجت أسواق المرتزقة فترة الحرب الباردة واستُخدموا بكثرة فى الحروب بالوكالة. وكان من أبرز سمات انغماس الولايات المتحدة فى استخدام المرتزقة إصدار مجلة Soldier of Fortune التى أصدرها الكولونيل Robert Brown، أحد المحاربين فى حرب فيتنام فى ولاية كولورادو، وكانت تنشر إعلانات تطلب خدمات الجنود المرتزقة.
ونشطت أجهزة المخابرات الفرنسية والبريطانية والأمريكية فى التعاقد مع المرتزقة لقمع حركات التحرر الوطنى، ولعب المرتزقة الفرنسيون دورا بارزا فى حرب تحرير فيتنام من الاستعمار الفرنسى التى انتهت بهزيمة فرنسا فى معركة «ديان بيان فو» وفى حرب التحرير الجزائرية، وكان من أبرزهم المرتزق Roger Faulques، كما لعبت المرتزقة دورا كبيرا فى الاضطرابات التى سادت الكونغو عقب استقلاله عن بلجيكا وانفصال إقليم كاتانجا برئاسة «مويس تشومبى» بإيعاز من بلجيكا وبتشجيع من وكالة المخابرات الأمريكية وجهاز المخابرات البريطانية MI6 خوفا من سيطرة أنصار لومومبا اليساريين على الإقليم الغنى جدا بالماس والذى يحتوى على منجم شينكولوبوى Shinkolobwe وهو أكبر منجم لليورانيوم فى العالم. وبلغ من فُجر المرتزقة أن حاصروا قوات الأمم المتحدة خلال شهر سبتمبر 1961 فى معركة Shodotville الشهيرة، ثم انتقل المرتزقة من الكونغو إلى بيافرا الانفصالية خلال الحرب الأهلية النيجيرية ثم إلى جنوب السودان وروديسيا أثناء حرب التحرير من النظام العنصرى فيها وفى جنوب إفريقيا وناميبيا. واشتهر خلال هذه الحروب أسماء العديد من المرتزقة مثل الألمانى Heinrich Müller والبريطانى .Mike Hoare
وتحالفت أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية والإسرائيلية والإيرانية فى تجنيد العديد من المرتزقة لدعم نظام إمام اليمن المخلوع فى حربه ضد قوات الجمهورية المدعومة من مصر فى الستينيات من القرن الماضى.
***
وأخيرا حدث تطور جديد فى المرتزقة بتأسيس ما أطلق عليه مقاولو الأمن مثل شركة Blackwater الأمريكية التى كان لها سجل أسود فى العراق، وشركة Wagner Group الروسية ودورها فى سوريا وليبيا، وشركة executive outcomes الجنوب إفريقية ونشاطها فى إفريقيا والتى نشطت فى أنجولا فى الحرب الأهلية. ومن المفارقات أن الحكومة استعانت بمرتزقة من الشركة لحماية حقول البترول كما استعانت المعارضة التى مثلتها حركة UNITA بنفس الشركة لحماية مناجم الماس التى تسيطر عليها. ولعل أكثر مغامرات المرتزقة فى إفريقيا فجاجة كانت استعانة «أحمد عبدالله» بالمرتزق الفرنسى Bob Denard للانقلاب على رئيس جزر القمر «على صويلح»، لكنه تمرد عليه بعد فترة فى عام 1987 وقاد انقلابا استولى به مع مجموعته من المرتزقة على الحكم حتى تدخلت فرنسا لإقصائه. الجدير بالذكر أن الأمم المتحدة أصدرت فى عام 2001 الاتفاقية الدولية لمنع استخدام وتمويل وتدريب المرتزقة، صادقت عليها حتى الآن 35 دولة ليس من بينها أى من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن حتى لا تضع قيودا على تصرفاتها فى الساحة الدولية.
هذا التاريخ الأسود يعطى مصر كل الحق فى طلبها بإخلاء ليبيا من المرتزقة، وعلى كل الدول التى تحترم القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة أن تدعم هذا الجهد النبيل وأن تعتبر الدول التى تدعم المرتزقة دولا مارقة وخارجة عن القانون.