دور تفتقده وزارة الخارجية وواجب لا تؤديه - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دور تفتقده وزارة الخارجية وواجب لا تؤديه

نشر فى : الخميس 4 نوفمبر 2010 - 10:14 ص | آخر تحديث : الخميس 4 نوفمبر 2010 - 10:14 ص

 الدبلوماسية المصرية درع من دروع الأمن القومى المصرى وواجبها أن تتصدى للانفلات الحاصل فى معظم أنشطة العمل الخارجى، وآخر مظاهره غياب وزير الثقافة المصرى عن مؤتمر عربى.أتابع منذ فترة غير قصيرة أداء الوفود التى تبعث بها الحكومة المصرية للتفاوض حول شئون فنية وقضايا ذات طبيعة متخصصة، أو للمشاركة فى مؤتمرات دولية تنتج عنها قرارات بعضها ملزم وأكثرها يفرض على بلادنا تبعات ومسئوليات أخلاقية وحقوقية لسنوات طويلة.

تبدأ متابعتى من اللحظة التى يصدر فيها قرار بتشكيل الوفد المصرى مرورا بسلوك أعضاء الوفد خلال وجودهم بالخارج ومدى التزامهم حضور الاجتماعات، وعدد مرات مداخلاتهم فى النقاش، ومضمون هذه المداخلات والقدرة على إقناع الآخر، وتنتهى المتابعة بتقويم نتائج الاجتماع من قرارات وتوصيات مقارنة بالأهداف المحددة بوضوح فى ديباجة قرار تكليف الوفد بتحقيقها كلها أو أغلبها.

تعلمنا من تجارب الدبلوماسيات الناجحة الواعدة أن شروطا معينة يجب أن تتوافر قبل أن يستقل وفد رسمى طائرته ليشارك فى أعمال مؤتمر دولى أو إقليمى أو ليفاوض ثنائيا على قضية تهم مصلحة من المصالح المصرية. الشروط كثيرة، أو هكذا كانت، إلى أن جاء وقت لم نعد نولى فيه قضايانا الاهتمام الذى تستحقه وحين تراخينا وأهملنا صيانة حقوقنا فانحسرت. تراجعت مواقعنا تحت ضغط مصالح دول وقوى صاعدة أو مساعى قوى مستفيدة من انحسار حقوقنا وضغوطنا. اكتسى خطابنا الخارجى بصياغات تميل إلى السلبية ومنها الصياغات التبريرية والدفاعية تدعمها أساليب البطء والتريث والتجاهل وأحيانا استخدام لهجة استعلائية لا تتناسب مع واقع قوانا المعنوية والناعمة أو واقع صعود دول إقليمية ونهضة التعليم فى دول عديدة.

اخترت من الشروط الكثيرة التى يجب أن تتوافر قبل إرسال وفود مصرية إلى الخارج عددا محددا كان التقصير فى توفيرها سببا أساسيا فى «فلتان» أصاب بالضرر مصالح مصر وفى حالات معروفة هدد ركيزة أو أكثر من ركائز الأمن القومى.

أول الشروط هو بالفعل أهمها. ولن أردد ما يقوله ويكرره آخرون بأن دبلوماسيتنا كانت حريصة فى عهودها الأولى على توفيره. ولكنى أردد ما نعرفه عن أداء الدبلوماسيات المتقدمة أو النشيطة، ومنها على سبيل المثال دبلوماسيات الولايات المتحدة وبريطانيا والبرازيل والهند والصين. الأساس هناك، هو أن وزارة الخارجية هى الجهة الوحيدة المسئولة عن مجمل العلاقات الخارجية. وهى أيضا الجهة الوحيدة التى توجد لديها خريطة دقيقة ومترابطة الأجزاء لجميع مصالح الدولة الخارجية.

ولذلك فإنه يكون غير جائز إداريا وقانونيا أن يصدر قرار بتشكيل وفد مكلف بالتفاوض باسم مصر فى الخارج لم تضع وزارة الخارجية الصياغة الدبلوماسية اللائقة واللازمة لتوضيح الغرض منه وما يسعى لتحقيقه، وغير مفيد ألا يضم الوفد أحد كبار موظفى الخارجية من المتخصصين فى موضوع المؤتمر أو المفاوضات التى شكل الوفد من أجلها، وغير مجدٍ للمصلحة القومية العليا ألا يسبق هذا وذاك تنسيق تقوم به وزارة الخارجية مع الوزارات المعنية مباشرة والجهات الأخرى ذات الصلة ليدلى مندوب كل جهة بدلوه استنادا إلى تجربة سابقة فيستفيد الوفد الرسمى المكلف بالسفر من خبرة الأجهزة الأخرى ولا يلتزم أثناء مفاوضاته بالتزامات تتناقض ومصالح مصر التى تكون من اختصاص قطاعات أخرى فى الدولة.

راقبت، بين من راقبت. السيدة هيلارى كلينتون، وهى تدلى برأى وزارتها، الذى هو الرأى الرسمى المعتد به دوليا، فى موضوع محل مفاوضات تجارية أو عسكرية أو موضوع يتعلق بالهجرة وبعلاقات الأديان والحضارات. راقبتها وهى تصدر توجيهاتها إلى الوفد المكلف بأداء مهمة ثقافية فى اليونسكو، وإلى الوفود الاقتصادية المكلفة بالتفاوض مع حكومة بكين على قيمة العملة وسياسات الإغراق، وإلى وفود أمريكية مكلفة بتعطيل التقدم فى مباحثات تلوث البيئة أو وفود رياضية مكلفة بالتحضير لاجتماعات التصويت لاختيار مقر الأوليمبياد أو كأس العالم.

ورغم التوجيهات المباشرة الصادرة من الوزيرة شخصيا أو من مساعديها إلى هذه الوفود كافة تحرص على أن يضم الوفد دبلوماسيا أمريكيا ملما بتفاصيل الموضوع وتطوراته، ومتيقنا من الموقف الرسمى للولايات المتحدة ومصالح أمريكا المتشعبة والرأى الغالب فى الكونجرس، ولا تقتصر مهمة الدبلوماسى فى الوفد على تقديم المشورة السياسية والدبلوماسية بل تتعداها أحيانا إلى مراجعة الصياغات النهائية للتوصيات والاتفاقيات والتشاور مع رؤسائه فى وزارة الخارجية بواشنطن عند اللزوم.

سمعت مسئولا كبيرا فى الدبلوماسية المصرية يقول رأيا وجيها فى رده على اتهام موجه للخارجية المصرية بالتقاعس فى أداء هذا الدور. قال إن التخصص الدقيق أصبح شرطا من شروط التعامل الكفء مع الأجانب عند التفاوض حول قضايا فنية دقيقة أو علمية، مثل قضايا الانشطار النووى واستخراج المواد الخام من أعماق البحار وبعض المسائل المتعلقة بالإرهاب والتطرف، وفى معظم هذه القضايا يصعب توفير عدد مناسب من المتخصصين من بين الدبلوماسيين فى وزارة الخارجية لمتابعتها والإحاطة بتفاصيلها وصياغة «موقف دولة» تتوافق حوله أعلى مستويات صنع القرار لتلتزم به بالتالى الوفود الرسمية المصرية.

يذكرنى هذا الرد بالآراء التى ترددت قبل ثلاثين عاما أو ما يزيد فى شأن الصعوبات التى تواجهها المجالس التشريعية المنتخبة فى جميع الدول حتى المتقدم منها، بسبب صعوبة فهم المشرعين للغة التى يستخدمها العلماء فى شرح منجزاتهم التى يرغبون فى إصدار تشريعات تحميها أو تنفذها. كانت هذه التعقيدات وراء قيام هيئات تشريعية كثيرة بتعيين مستشارين علميين وفنيين فيها تكون مهمتهم شرح نواحى التقدم العلمى للمشرعين واقتراح صيغ أبسط للقوانين. وعلى ضوء هذه التجربة لجأت وزارات للخارجية إلى الحل نفسه، فصارت تعين مستشارين فنيين للوزير، ويكون من بين مهامهم تدريب الدبلوماسيين للتعمق فى موضوعات ليست بالضرورة من الاختصاصات التقليدية للعمل الدبلوماسى خاصة أنه يسود الاعتقاد بين عديد الدبلوماسيين فى بعض دول العالم النامى بأن السياسة هى مجال الدبلوماسية، وما عدا ذلك فهو من اختصاص أجهزة الدولة الأخرى ولا ضرورة لأن يهتم به الموظف الدبلوماسى.

هناك استثناءات معروفة فى الدول الكبرى لقاعدة أن تتولى وزارة الخارجية مسئولية تنسيق جميع أنشطة الدولة الخارجية، مثل اليابان، إذ تقوم بهذا الدور وزارة التجارة اليابانية. كان هذا الاستثناء مفهوما فى دولة قررت تقليص اهتمامها بنوعين من النشاط الدولى هما السياسى والعسكرى. يحدث الاستثناء أيضا فى بعض النظم السياسية ذات الصفة العسكرية حين تحتكر قيادة الحكم العسكرى التخطيط للعمل الدولى وغالبا ما دفعت الأجهزة الدبلوماسية فى هذه الدول ثمنا باهظا لسنوات طويلة. حدث هذا فى مراحل متعددة فى باكستان وبعض الدول العربية ودول فى أمريكا اللاتينية. ولا شك أيضا أن هيمنة الحزب الواحد على السياسات كافة فى عدد من دول شرق أوروبا خلال مرحلة الحكم الشيوعى أدت بالدبلوماسية فى هذه الدول إلى مصير لم يكن أفضل من مصير الدبلوماسيات فى دول خضعت للحكم العسكرى.

وتشير الخبرة فى هذه الاستثناءات إلى أنه بعد فترة من دوام الوضع على هذه الحال يصدق على وزارة الخارجية الاتهام بأنها لا تقوم بواجبها وأنها لا يمكن أن تكون قادرة على قيادة العمل الخارجى للدولة، وبعدها يزداد التجاهل لوزارة الخارجية حتى يصل الأمر بمختلف أجهزة الدولة إلى القيام بدور وزارة الخارجية أو الالتفاف حوله، ويتحول العمل الخارجى إلى مجموعات مصالح تتزاحم على الخارج وتتنافس وفى الغالبية تتناقض رسائلها وأهدافها.

لا تخفى حقيقة أن انحسار دور الخارجية أو تقاعسها أفسح المجال أمام انتقادات كثيرة نحملها مسئولية تدهور علاقات مصر بالجزائر بعد أن تصرفت أجهزة رياضية وغير رياضية تصرفات خرقاء، ونحملها مسئولية أوضاع جالياتنا المهاجرة إلى النفط فى الشرق وإلى العلم فى الغرب، وهى أوضاع فى غالبيتها مهينة وسيئة. ونحملها مسئولية توصل معظم دول حوض النيل فى غياب أو إهمال مصرى لقرارات تؤثر مباشرة على مصالح دول المصب، ونحملها مسئولية التخبط العربى فى إدارة العمل الإقليمى ومسئولية الطغيان السياسى الإسرائيلى فائق الحدود.

الدبلوماسية المصرية درع من دروع الأمن القومى المصرى وواجبها أن تتصدى للانفلات الحاصل فى معظم أنشطة العمل المصرى الخارجى، وآخر مظهر من مظاهره غياب وزير الثقافة المصرى عن مؤتمر عربى على مستوى الوزراء للاتفاق على عقد قمة ثقافية عربية ووضع ملامح استراتيجية ثقافية تنهض بالأمة وتنسق بين أجهزتها الثقافية، وأعتقد اعتقادا جازما أن رأى وزارة الخارجية فى مثل هذه الأمور التى تمس مستقبل مصر ومكانتها يجب أن يكون قويا وحازما.

أعرف عن ثقة أن الخارجية المصرية آلت على نفسها أن تعمل ما فى وسعها لتستعيد لمصر دورا فى محيطها العربى يؤهلها لدور أشمل فى الدائرة الإقليمية الزاخرة حاليا بأنشطة استراتيجية مثيرة للاهتمام. وأعرف وعن ثقة أيضا أن الثقافة تظل أحد الأبواب القليلة التى بقيت مفتوحة لعودتنا إلى مكان كان يتسع لنا ومكانة تنتظر أن نضاعف الجهد لنستحقها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي