نشر موقع 180 مقالا مترجما بتصرف عن مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، لمساعد الرئيس الإيرانى للشئون الاستراتيجية ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، بعنوان «كيف ترى إيران الطريق إلى السلام؟» منشور بتاريخ 2 ديسمبر الجارى، قامت بترجمته منى فرح، أكد ظريف فى مقاله أن بلاده «لا تمانع فى إجراء محادثات مع واشنطن تضمن مصلحة الطرفين»، وأنها «مستعدة للانخراط فى ذلك مع جميع الدول من أجل منطقة تنعم بالسلام والاستقرار والازدهار، لكنها لن تستسلم لأى ضغوط أو مطالب غير معقولة»، داعيا إلى عدم تفويت الفرصة والاستفادة من «الشريك المثالى ــ إيران».. نعرض من المقال ما يلى:
فى 30 يوليو الماضى، أدَى مسعود بزشكيان اليمين الدستورية كرئيس جديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وبعد ساعات قليلة من حفل التنصيب، اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس إسماعيل هنية. عملية الاغتيال ألقت الضوء على التحديات الجسام التى سيواجهها بزشكيان فى سعيه لتحقيق طموحاته وتطلعاته الخاصة بالسياسة الخارجية لبلاده.
بزشكيان مستعدٌ بشكل جيد جدا للتعامل مع كل الصعوبات التى يرتقبها خلال سنوات ولايته. ويدرك جيدا أن العالم ينتقل إلى عصر ما بعد القطبية، حيث يمكن للجهات الفاعلة العالمية التعاون والتنافس فيما بينها فى الوقت نفسه وعبر مجالات مختلفة. كما أنه تبنى سياسة خارجية مرنة، مع إعطاء الأولوية للدبلوماسية والحوار البنّاء لحل كل القضايا العالقة، بدلا من الاعتماد على نماذج عفا عليها الزمن.
أكثر ما يريده بزشكيان هو الاستقرار والتنمية الاقتصادية فى منطقة الشرق الأوسط كلها. ويتطلع للتعاون مع كل الدول العربية المجاورة وتعزيز العلاقات مع كل الحلفاء. لكنه يريد أيضا الانخراط بشكل بنّاء مع الغرب. وحكومته مستعدة لإدارة التوترات مع الولايات المتحدة، وهو يأمل فى إجراء مفاوضات متكافئة لعقد اتفاق نووى ــ وربما أكثر من ذلك. ومع ذلك، وكما أوضح بزشكيان نفسه، فإن إيران لن تستسلم ولن تخضع لأى مطالب أو شروط غير معقولة، بل ستقف دوما فى وجه أى عدوان إسرائيلى أو غير إسرائيلى، ولن تتوانى أبدًا عن حماية مصالحها الوطنية.
• • •
يؤكد ظريف أن إيران أثبتت؛ تحت قيادة المرشد الأعلى خامنئى، أنها قادرة على الدفاع عن نفسها ضد أى عدوان خارجى. وللارتقاء بهذا الإنجاز إلى المستوى التالى، تعمل إيران، تحت إدارتها الجديدة، على تحسين علاقاتها مع الدول المجاورة لإيمانها بأن هذا هو الطريق الأمثل لتأسيس نظام إقليمى يعزز الاستقرار والثروة للجميع. لقد أبتليت منطقتنا، ولفترات طويلة جدا، بالحروب والصراعات الطائفية والمذهبية والإرهاب والاتجار بالمخدرات وندرة المياه وأزمات اللاجئين والمشاكل البيئية.. وغير ذلك. ولمعالجة كل هذه التحديات، سنسعى نحو تحقيق التكامل الاقتصادى، وأمن الطاقة، وحرية الملاحة، وحماية البيئة وتعزيز الحوار بين الأديان.
ويضيف: لا بد أن تؤدى هذه الجهود فى نهاية المطاف إلى ترتيب إقليمى جديد يقلّل من اعتماد المنطقة على القوى الخارجية، ويشجع أصحاب المصلحة على إيجاد الآليات المثالية لمعالجة النزاعات وحلها بالطرق الدبلوماسية. وللقيام بذلك، قد تسعى دول المنطقة إلى إبرام معاهدات وإنشاء مؤسسات وسنّ سياسات وتمرير تدابير تشريعية. ويمكن لإيران وجيرانها أن يبدأوا بمحاكاة «عملية هلسنكى» (أدّت إلى تشكيل منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا). كما يمكنهم استخدام التفويض الذى لم يتم تنفيذه مطلقا والذى منحه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للأمين العام فى عام 87، بموجب القرار 598. دعا ذلك القرار، الذى أنهى الحرب بين إيران والعراق، الأمين العام إلى التشاور مع إيران والعراق ودول إقليمية أخرى لاستكشاف التدابير التى يمكن أن تعزز الأمن والاستقرار فى الخليج. وتعتقد إدارة بيزيشكيان أن هذا البند يمكن أن يكون بمثابة الأساس القانونى للمحادثات الإقليمية الشاملة.
يستكمل ظريف: بالطبع هناك عقبات يتعين على إيران وجيرانها التغلب عليها من أجل تعزيز نظام إقليمى سلمى ومتكامل. فبعض الخلافات مع الجيران مزمنة، تشكلت بفعل تفسيرات متباينة للتاريخ. وهناك خلافات أخرى ترجع فى الأساس إلى غياب التواصل. وهناك خلافات ناجمة عن تصورات سياسية زرعتها قوى خارجية، مثل الادعاءات المتعلقة بطبيعة وهدف البرنامج النووى الإيرانى.
• • •
بعد أكثر من عشرين عاما من الحصار والعقوبات الاقتصادية، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أن يدركوا أن إيران لا تخضع للضغوط، وأن تدابيرهم القسرية المتزايدة دائما تأتى بنتائج عكسية. ففى ذروة حملة الضغط القصوى أقرّ البرلمان الإيرانى قانونا يوجه الحكومة إلى التقدم السريع فى برنامجها النووى والحد من المراقبة الدولية. وقد تم بالفعل زيادة عدد أجهزة الطرد المركزى بشكل كبير منذ عام 2018 وارتفعت مستويات التخصيب من 3.5% إلى أكثر من 60%. ومن الصعب أن نتخيل أن أيا من هذا كان ليحدث لو لم يتخل الغرب عن قرار التعاون واختار المعاداة وفرض القيود.
بدلا من زيادة الضغط على إيران، يتعين على الغرب أن يسعى لإيجاد حلول إيجابية، مثل إعادة إحياء الاتفاق النووى. وللقيام بذلك، يتعين على الغرب أن يتخذ إجراءات ملموسة وعملية ــ بما فى ذلك التدابير السياسية والتشريعية والاستثمارية ذات المنفعة المتبادلة ــ كما سبق ووعد، من أجل ضمان استفادة إيران اقتصاديا من الاتفاق المأمول. وإذا قرر ترامب اتخاذ مثل هذه الخطوات، فإن الجانب الإيرانى على أتم الاستعداد لإجراء حوار بنّاء.
يقول ظريف: على نطاق أوسع، يتعين على صناع السياسة فى الغرب أن يعترفوا بأن الاستراتيجيات التى تهدف إلى تأليب إيران والدول العربية ضد بعضها البعض ــ من خلال دعم مبادرات مثل اتفاقات أبراهام ــ قد أثبتت عدم فعاليتها فى الماضى، ولن تنجح فى المستقبل. يحتاج الغرب إلى اتباع نهج بناء أكثر، نهج يستفيد من ثقة إيران التى اكتسبتها بشق الأنفس، ويقبل بإيران كجزء لا يتجزأ من الاستقرار الإقليمى، ويسعى إلى إيجاد حلول تعاونية للتحديات المشتركة. وقد تدفع مثل هذه التحديات المشتركة كلا من طهران وواشنطن إلى الانخراط فى إدارة الصراع بدلا من التصعيد المتزايد. والواقع أن جميع البلدان، بما فى ذلك إيران والولايات المتحدة، لديها مصلحة مشتركة فى معالجة الأسباب الكامنة وراء الاضطرابات الإقليمية.
هذا يعنى أن جميع الدول لديها مصلحة فى وقف الاحتلال الإسرائيلى. ويتعين عليها أن تدرك أن القتال والغضب سوف يستمران طالما الاحتلال موجود. وربما تتصور إسرائيل أنها قادرة على تحقيق انتصار دائم على الجانب الفلسطينى، ولكنها لا تستطيع ذلك؛ لأنه ببساطة لا يمكن هزيمة الشعب الفلسطينى الذى ليس لديه ما يخسره. والواقع أن الجماعات المقاومة، مثل حزب الله وحماس، هى حركات تحرير شعبية نشأت ردا على الاحتلال، وسوف تستمر فى الاضطلاع بدور مهم ما دامت الظروف الكامنة وراء ذلك قائمة.
• • •
يختتم ظريف مقاله مشيرا إلى أن إيران قادرة على الاستمرار فى لعب دور بنّاء من أجل إنهاء الكابوس الإنسانى الذى يعيشه أهل قطاع غزَّة، والعمل مع المجتمع الدولى من أجل التوصل إلى حل دائم وديموقراطى للصراع. وسوف توافق إيران على أى حل يقبله الشعب الفلسطينى، ولكن حكومتنا تعتقد أن أفضل وسيلة للخروج من هذه المحنة؛ التى دامت قرنا من الزمان؛ تتلخص فى إجراء استفتاء يتمكن فيه كل من يعيش بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط- المسلمون والمسيحيون واليهود- والفلسطينيون الذين طردوا إلى الشتات فى القرن العشرين (مع أحفادهم) من تحديد نظام حكم قابل للاستمرار فى المستقبل. وهذا يتماشى مع القانون الدولى، ومن شأنه أن يبنى على النجاح الذى حققته جنوب إفريقيا، حيث تحول نظام الفصل العنصرى إلى دولة ديموقراطية قابلة للاستمرار.
إن التعامل البنّاء مع إيران، إلى جانب الالتزام بالدبلوماسية المتعددة الأطراف، من شأنه أن يساعد فى بناء إطار متين للأمن والاستقرار العالميين فى المنطقة. وبالتالى، يمكن أن يساعد فى الحدّ من التوترات القائمة ويعزز مقومات الرخاء والتنمية على المدى الطويل. وهذا التحول أمر بالغ الأهمية للتغلب على الصراعات المتجذرة. ورغم أن إيران اليوم واثقة من قدرتها على القتال دفاعا عن النفس، فإنها تريد السلام، وهى عازمة على بناء مستقبل أفضل. إيران يمكن أن تكون الشريك المثالى- الراغب بعلاقات جيدة والقادر على بناء مثل هذه العلاقات- طالما كانت الشراكات قائمة على المساواة والاحترام المتبادل. دعونا لا نفوّت هذه الفرصة.
النص الأصلى: