تحولات النظام الاقتصادى العالمى بعد هدنة واشنطن وبكين - قضايا اقتصادية - بوابة الشروق
الخميس 17 يوليه 2025 4:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

تحولات النظام الاقتصادى العالمى بعد هدنة واشنطن وبكين

نشر فى : الأربعاء 16 يوليه 2025 - 9:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 يوليه 2025 - 9:00 م

فى بدايات القرن التاسع عشر، حذر الاقتصادى الفرنسى، فريدريك باستيا (Frédéric Bastiat)، من أنه «إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود»؛ فى إشارة إلى أن غياب التجارة قد يفضى إلى نزاعات ذات عواقب وخيمة، وهو ما بدا وشيكًا قبل الإعلان عن الاتفاق التجارى بين الولايات المتحدة والصين فى أواخر يونيو 2025، الذى هدف إلى إيقاف السباق المحموم نحو رفع الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين فى العالم. فقد سجلت تلك الحرب التجارية ذروتها عند نحو 145% رسومًا أمريكية على السلع الصينية المُصدرة إلى الولايات المُتحدة، مقابل 125% رسومًا صينية على الواردات الأمريكية.

 

شهد النظام التجارى العالمى، فى مطلع عام 2025، أكبر صدمة له منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث دفعت السياسة التصعيدية للرسوم الأمريكية إلى كسر أعراف ظلت راسخة لعقود؛ فقد ارتفع متوسط التعريفة الجمركية الأمريكية من 2.5% عام 2024 إلى نحو 28% فى أوائل مايو 2025، وهو أعلى مستوى يُسجل منذ قرن تقريبًا. وعلى الرغم من التخفيض المؤقت لبعض الزيادات إثر اتفاقيات ثنائية مع الصين وبريطانيا؛ فقد اهتزت أركان النظام التجارى متعدد الأطراف بقوة؛ ما أسفر عن تداعيات جمة فى مقدمتها الآتى:
1- انقلاب على التعددية التجارية: تجاهلت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب قواعد منظمة التجارة العالمية، والتزاماتها الثنائية، فارضةً تعريفات أُحادية الجانب بشكل غير مسبوق. وقد أدى ذلك إلى زعزعة الثقة بالنظام التجارى متعدد الأطراف، وإثارة مخاوف من انهيار الدور التحكيمى للمنظمة الدولية.
2- تباطؤ النمو العالمى: دفعت التوترات المؤسسات الدولية إلى خفض توقعات النمو العالمى لعام 2025 إلى أبطأ وتيرة منذ عام 2008، باستثناء فترات الركود العالمى. وقلَّص البنك الدولى تقديره لنمو الاقتصاد العالمى إلى 2.3% فقط، مع خفض التوقعات لنحو 70% من اقتصادات العالم. وحذرت منظمة التجارة العالمية من أن انقسام التجارة إلى تكتلات متنافسة قد يؤدى إلى انكماش حجم التجارة السلعية بنحو 0.2% عام 2025، مع تراجع صادرات أمريكا الشمالية بنحو 12.6%.
• • •
أجبر تصاعد الحرب التجارية الأمريكية الصينية شركات ودولاً على إعادة ترتيب مصادر التوريد، والبحث عن بدائل؛ لتجنب المخاطر. وفى المقابل، استطاعت الصين إعادة توجيه صادراتها إلى أسواق بديلة؛ إذ حققت نموا إجماليا بنحو 4.8% فى صادراتها فى مايو الماضى، وقفزت صادراتها إلى الاتحاد الأوروبى بنحو 12% على أساس سنوى. وصاحب ذلك ما يلى:
1- إعادة تشكيل خارطة التوريد: اضطرت الشركات العالمية إلى إعادة تقييم سلاسل إمدادها. فعلى سبيل المثال، أدى انقطاع الصين عن تصدير المعادن النادرة إلى التأثير فى الصناعات الكبرى مثل السيارات والفضاء وأشباه الموصلات والدفاع حول العالم؛ ما دفع الكثير من المُصنعين إلى تبنى سياسة «الصداقة التجارية» (Friend-Shoring)، للحماية من صدمات العرض المفاجئة.
2- مرونة آسيوية وإقليمية: استفادت اقتصادات آسيوية وأخرى نامية من إعادة هيكلة سلاسل الإمداد؛ حيث إن بلدان جنوب شرق آسيا والهند والمكسيك وغيرها جذبت بعض الاستثمارات الصناعية الباحثة عن بدائل لتفادى حرب الرسوم الجمركية. وبادرت رابطة «آسيان» إلى تكثيف التكامل الاقتصادى الإقليمى؛ حيث تبنت خطة استراتيجية خمسية جديدة (2026–2030) تصبو إلى جعل الكتلة رابع أكبر اقتصاد عالمى بحلول 2045، وتضمنت رؤيتها تعزيز سلاسل الإمداد الإقليمية وتأمين مصادر الطاقة وتحسين الربط اللوجستى؛ لتحصين اقتصاداتها ضد تقلبات النظام التجارى العالمى.
• • •
أعاد النزاع التجارى بين الولايات المتحدة والصين، وصياغة الاتفاق اللاحق؛ رسم المشهد الجيواقتصادى على امتداد العالم، دافعًا مختلف الأطراف إلى إعادة التموضع الاستراتيجى؛ فقد رأت قوى أخرى فرصًا ومخاطر تستدعى التحرك، وتباينت ردود الفعل بين آسيا وأوروبا والاقتصادات النامية فى التكيّف مع الواقع الاقتصادى الجديد، وهو ما يتضح فى الآتى:
1- آسيا.. تعزيز التكتل الإقليمى وتوازن جديد للقوى: دفعت الحرب التجارية دول شرق وجنوب شرق آسيا إلى تعزيز التعاون الإقليمى، وتخفيف الاعتماد على الأسواق الغربية. فإلى جانب جهود الصين لدعم صناعاتها الوطنية، أبدت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية موقفًا تفاوضيًا أكثر صلابة مع الولايات المتحدة الأمريكية فى القضايا التجارية. وفى الوقت نفسه، استفادت الهند وفيتنام وبلدان آسيوية أخرى من تحوّل بعض الاستثمارات الصناعية إليها كبديل عن الصين، أو كأجزاء فى سلاسل إمداد جديدة آخذة فى التشكُّل.
2- أوروبا.. بين الفرصة والحرج: وجدت أوروبا نفسها فى موقف حرج بين عملاقين اقتصاديين يتنازعان؛ فمن جهة، رحبت العواصم الأوروبية بانفراج التجارة بين واشنطن وبكين لتخفيف آثار التباطؤ العالمى، ومن جهة أخرى، أدركت أن الاعتماد التام على الولايات المُتحدة فى قيادة النظام الاقتصادى لم يعد مُسلمًا به؛ لذا بدأ التوجه الأوروبى نحو بناء تحالفات تجارية مع دول آسيا وإفريقيا، وتعزيز منظمة التجارة بإصلاحات جوهرية، وربما أيضًا الانفتاح على الصين بشروط لضمان عدم انقسام العالم إلى كتلتين.
• • •
على الرغم من التوصل إلى هدنة تجارية بين الولايات المتحدة والصين، تبقى التساؤلات حول مستقبل النظام الاقتصادى العالمى، فما زال الاتفاق الأمريكى الصينى مجرد إطار مبدئى غير ملزم قانونيًا، يؤمّن راحة جزئية ومؤقتة، وسوف يتوقف الأمر على كيفية تصرف الولايات المتحدة فى نزاعاتها الجمركية ضمن حدود القانون والسياسة الداخلية، وعلى مدى التزام بقية الدول بالنهج التعددى فى إدارة التجارة العالمية. ويبدو أنه من الصعوبة عودة سلاسل التوريد والنظام الجيواقتصادى العالمى إلى ما كان عليه قبل تصاعد الحرب التجارية، خاصةً مع استمرار التعريفات الجمركية بين واشنطن وبكين عند مستويات أعلى كثيرًا من السابق، واستمرار حالة عدم اليقين كسمة مميزة للفترة الراهنة.
ويمكن فى هذا الصدد تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية على الأقل:
السيناريو الأول (تثبيت الهدنة ونظام تعايش تجارى جديد): وفق هذا السيناريو، تلتزم واشنطن وبكين بالإطار المُتفق عليه وتحوله إلى اتفاق تفصيلى مستدام. وتبقى الرسوم مرتفعة لكن مستقرة لفترة ممتدة؛ ما يسمح باستئناف تدفق السلع ولو بتكلفة أعلى، وتنشط قنوات الحوار الثنائى لضمان تنفيذ الصين وعودها بشأن صادرات المعادن النادرة وبعض الإصلاحات، فيما قد تُخفف الولايات المتحدة بعض قيود التصدير التكنولوجى تحت ضغط شركاتها. ويدعم ذلك الأسواق ويخفف حالة عدم اليقين، وربما يُشجع على نمو الاستثمارات مجدداً وإن كان بشكل انتقائى.
السيناريو الثانى (انتكاس وتصاعد المنافسة الصفرية): وفق هذا التصور المتشائم، قد يتنصّل أحد الطرفين (أو كلاهما) من الاتفاق، فتعود دوامة التصعيد سريعا وربما بشكل أشد من السابق. وعندئذ تستعر الحرب التجارية مجددا، ويصاحبها اضطراب حاد فى الأسواق وتآكل للثقة. وسيكون كلا الطرفين، واشنطن وبكين، خاسرا، وستجد الدول الأخرى نفسها أمام ضغوط متجددة للاختيار بين السوقين الأمريكية والصينية.
السيناريو الثالث (ولادة أُطر تجارية جديدة وتحديث الحوكمة العالمية): هناك فرضية أكثر تفاؤلاً تقوم على استغلال دروس الأزمة لإعادة بناء نظام تجارة دولى أكثر متانة. وتُدرك واشنطن وبكين وغيرهما أنه لا مفر من التعاون لضمان الازدهار والاستقرار المشترك. وقد يتحول الاتفاق الثنائى إلى مبادرة أوسع نطاقا ليصبح بمثابة «ميثاق تجارى عالمى جديد»، يراعى الاعتبارات الأمنية والمنافسة العادلة، بما يضمن وضع حدود قصوى متفق عليها للتعريفات. وفى ظل ذلك، قد يشهد العالم تحسنا كبيرا فى مناخ الأعمال بوجود قواعد أوضح وضمانات أقوى، وستستعيد التجارة العالمية جاذبيتها.
• • •
سيظل التساؤل مطروحا: هل نحن أمام اتفاق هش أم نظام جديد؟ ما زالت العلاقة التجارية الأمريكية الصينية هشة، ولا يُتوقع عودة الأمور إلى سابق عهدها سريعا. فعلى سبيل المثال، وافقت بكين على استئناف تصدير المعادن الأرضية النادرة الحيوية إلى الولايات المتحدة ولكن ضمن شروط ولمدة ستة أشهر فقط. كذلك فإن الولايات المتحدة لن تزيل تماما قيودها على تصدير الرقائق الإلكترونية إلى الصين، بل ربما تخففها جزئيا تحت الضغط المشترك من بكين ومن صناعات التقنية الأمريكية المحلية.

لقد دخل النظام الاقتصادى العالمى حقبة إعادة تشكيل مضطربة، مع الكثير من عوامل عدم اليقين، ولكن أيضا مع فرص لمراجعة وإصلاح ما تصدّع. وسيكون على الحكومات إعادة التفكير فى استراتيجياتها التنموية والتجارية فى عالم لم يعد فيه الانفتاح المطلق مسلّما به، ولا المواجهة الحمائية حلاً مستداما. وعلى قطاع الأعمال تبنّى مرونة استباقية لإدارة المخاطر فى سلاسل الإمداد والتكيف مع قواعد لعبة جديدة قيد التشكل. أما المؤسسات الدولية، فيقع على عاتقها دور محورى فى رأب الصدع وإعادة إرساء حوكمة اقتصادية عالمية عادلة ومتوازنة.

وأخيرا، تُثبت الأحداث جوهر مقولة باستيا، فالتجارة ليست مجرد تبادل سلع، بل هى صمام أمان للسلم والاستقرار. ولعل إدراك هذه الحقيقة والعمل بمقتضاها، يُمثل التحدى الأكبر أمام صناع السياسات فى المرحلة المقبلة، فالقرارات التى يتخذها القادة الآن سوف تحدد ما إذا كنا ماضين نحو عالم مجزأ وضعيف، أم نحو عولمة متجددة أكثر حكمةً وصلابة.

 

 

رشا مصطفى عوض

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:


https://tinyurl.com/yeywbr5p

قضايا اقتصادية القضايا الاقتصادية العالمية والدولية والمحلية
التعليقات