لعل من أخبث الأزمات التى يعانى منها مجتمعنا هو ما يطلق عليه العوام عقدة الخواجة. تلك العقدة التى تظهر ضعف الثقة بالنفس والاتكال على الغير. فنحن نختار المستورد ونفضله على المحلى وندفع فيه أكثر لمجرد أنه «شغل بره» سواء كان «بره» هو ألمانيا أو زيمبابوى! نسلم أولادنا إلى المدارس الأجنبية لتعليمهم وسحب الثقة من المدرسة المصرية والمعلم المصرى. نضع ثقتنا فى العملات الأجنبية ــ الدولار واليورو ــ أكثر من ثقتنا فى الجنيه المصرى. نصدق الإعلام الأجنبى وإن غص بالأكاذيب والعنصرية، ولا نستمع إلى إعلامنا، ووصل بنا الأمر إلى أن بعض نسائنا يسافرن إلى بلاد بعيدة ليضعن ما فى أرحامهن ليكون المولود مستوردا «جاى من بلاد بره»!
ولعلنا نلاحظ فصاما وشيزوفرانيا فى شخصية المصرى الحديث، فهو من ناحية شديد الفخر بتاريخه القديم، يؤكد أن الحضارة كلها نشأت فى مصر؛ المعمار الذى بلغ أوجه فى الأهرام والمسلات والمعابد، الطب الذى نشأ فى مصر التى شهدت جراحات المخ والعيون، وتقدم علوم الفلك والكتابة وهندسة الرى.
ولكن إذا حدثت هذا المصرى عن الحاضر وجدت هذه الثقة قد تبددت تماما؛ فأى مشروع كبير يحتاج إلى بيت خبرة أجنبى، وتقييم الاقتصاد يحتاج إلى مؤسسات دولية مثل موديز وستاندارد آند بور، ولقاح الكورونا لن يأتى إلا من أمريكا وأوروبا أو الصين، مدربو كرة القدم من الأجانب ولا ثقة فى حكم مصرى فى مباريات القمة الحاسمة، وحتى الأناقة والجمال يضع معاييرها كريستيان ديور وفرساتشى وإيف سان لوران!
ولعل أكثر نماذج عقدة الخواجة فجاجة واستفزاز هو قصة تعاملنا مع رجلين؛ واحد خواجة مستورد صنع بلاد برة والثانى ابن بلد مصرى.
***
أما الأول فهو فرديناند ديليسبس الذى بجلناه ووقرناه ووصفناه بأنه صاحب فكرة وصل البحرين المتوسط والأحمر، وهو سارق الفكرة من بروسبير انفانتين زعيم السان سيمونيين الذى أتى من فرنسا إلى مصر لطرح فكرته. ووصفناه بالمهندس العبقرى الذى نفذ المشروع وهو لم يكن مهندسا، وقلنا عنه الممول الفذ الذى مول المشروع والحقيقة أنه استخدم التدليس وورط الخديوى وساهم فى إفلاس مصر. وظهر تدليسه عندما حاول إعادة مغامرته فى بناما بعد أن رفعت عنه حماية قريبته أوجينى بعد سقوط زوجها نابليون الثالث عقب هزيمته فى الحرب الفرنسية البروسية عام 1871 فكانت نهايته فى السجن.
أما الثانى المصرى ابن البلد فهو مصطفى بهجت باشا المعروف باسم مصطفى المحرمجى الذى لا يعرفه أحد، مما يؤكد عقدة الخواجة. ومصطفى بهجت كان من الصبية النابهين الذين انتقاهم محمد على واهتم بتعليمهم ليكونوا نواة لنهضة مصر الحديثة، والتحق بمدرسة قصر العينى الابتدائية ومنها انتقل إلى المدرسة الحربية لمدة ثلاث سنوات ومنها إلى مدرسة المهندسخانة بالقلعة. ونظرا لتفوقه اختير ضمن بعثة الطلاب النابهين للدراسة فى فرنسا سنة 1826 لدراسة هندسة الرى، وهى البعثة التى اختير رفاعة الطهطاوى إماما لها، ثم تحول إلى أنبه طلابها وتزامل فى هذه الدفعة مع عدد من النابهين منهم محمد مظهر باشا الذى صار من أنبه مهندسى مصر وحسن باشا الاسكندرانى القائد البحرى العظيم ودارس الزراعة يوسف أفندى الذى أطلق اسمه على الفاكهة التى كان له الفضل فى إدخال زراعتها فى مصر.
أمضى مصطفى بهجت عشر سنوات فى فرنسا دارسا للهندسة حتى صار خبيرا ومهندسا نابها، وعندما عاد إلى مصر عين ناظرا لمدرسة قصر العينى التى بدأ مسيرته الدراسية بها لمدة سنتين انتقل بعدها ناظرا لمدرسة المدفعية فى طرة ثم عين باشمهندس الجفالك، وهى الأراضى المالحة والأراضى البور التى كان يمنحها محمد على لذوى القدرة لإصلاحها وتنميتها، معفاة من الضرائب، واشترك مع الفرنسى موجيل بك Dieudonné Eugène Mougel فى تصميم وبناء القناطر الخيرية. أما إنجازه الأكبر الذى يستحق تخليد اسمه فكان تصميمه وبناؤه ترعة الإبراهيمية.
وتعود فكرة إنشاء الترعة إلى رغبة الخديوى إسماعيل لتنمية أملاكه الزراعية فى أسيوط التى تبلغ 333 ألف فدان ليزرعها قصب السكر لمد مصانع السكر التى بناها بالمحصول.. ويحتاج القصب إلى وفرة كبيرة فى مياه الرى، فكلف مصطفى بهجت بإيجاد حل لمشكلة. فصمم قناة تمتد من بلده الفم فى أسيوط حتى مغاغة شمال المنيا. بدأ العمل بالترعة فى عام 1867 واكتمل فى عام 1873.
وتبدو عظمة وعبقرية مصطفى بهجت بمقارنة إنجازه بإنجاز ديليسبس، فقناة السويس التى حفرها ديليسبس يبلغ طولها عند إنشائها 164 كيلومترا، بينما يبلغ طول ترعة الإبراهيمية 268 كيلومترا. ويبلغ عرض قناة السويس التى حفرها ديليسبس 22 مترا بينما يبلغ عرض ترعة الإبراهيمية 70 مترا، أى ما يقرب من ثلاثة أضعاف. ويظل العنصر الوحيد الذى تتفوق فيه القناة عن الترعة هو العمق، فعمق قناة السويس يبلغ 11 مترا ويبلغ عمق الترعة 7,5 متر. ويعنى هذا أن العمل فى الترعة فاق كثيرا العمل فى القناة، يضاف إلى ذلك أنه بسبب نفوذ فرنسا وتشجيع الخديوى لشركة القناة، فقد جلب لها فى مراحلها الأخيرة الكراكات والآلات البخارية. أما الترعة فقد تمت كليا بالعمل اليدوى بنظام السخرة الذى جند له مائة ألف فلاح. ويلاحظ هنا أنه تحت ضغوط من بريطانيا التى كانت تعارض مشروع القناة لأنه يدعم النفوذ الفرنسى فى مصر، فقد ألغى الخديوى السخرة فى القناة إلا أنها استمرت فى ترعة الإبراهيمية لأنها تخدم مصالح الخديوى واقطاعياته فى أسيوط كما أنها كانت بعيدة عن اهتمام بريطانيا.
رغم تفوق حجم العمل والإنجاز الذى تم فى ترعة الإبراهيمية الذى تم بجهد مصرى خالص دون الاستعانة بمهندس أو آلات أوروبية، فقد استغرق العمل فى الترعة ست سنوات بينما استغرق العمل فى قناة السويس عشر سنوات رغم ذلك طوى النسيان اسم ابن البلد المصرى مصطفى بهجت باشا، ويندر أن نجد أحدا من المتعلمين تعليما عاليا يعرف من هو، أما ديليسبس فاسمه معروف لأى تلميذ فى المرحلة الإعدادية وزدنا على ذلك أن أقمنا له تمثالا يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار ويبلغ وزنه 17 طنا، ولم يكرم مصطفى بهجت بمجرد لوحة تذكارية، ولست أدرى كيف وافق الخديوى على هذه التفرقة بين المصرى والفرنسى رغم أن الترعة خدمت مصالحه الشخصية فى المقام الأول، لكن يزول العجب إذا عرفنا أن إسماعيل هو مبتدع لفظ «بلدى» كوصف للقبح والفجاجة.
***
إن التخلص من عقدة الخواجة أمر ضرورى لانطلاق مصر لتتبوأ المكانة التى تستحقها ولاستعادة الثقة فى النفس وبأننا قادرون على الإنجاز دون معونة من أحد، وألا نكون كالتلاميذ الذين يشعرون أنهم غير قادرين على النجاح والحصول على مجموع عال إلا بالاستعانة بالدروس الخصوصية. والتاريخ يؤكد لنا استطاعتنا أن ننجز ونبدع لأنفسنا دون مساعدة، فالقناة التى بناها ديليسبس واسترددناها سنة 1956 كان عرضها 22 مترا وسعناها إلى 20 مترا ثم أقمنا تفريعة جديدة، كلها أقامها المهندس المصرى والعامل المصرى بكرامة وبهامة مرفوعة بعيدا عن السخرة وسياطها وحقق جيشنا أعظم انتصاراته فى عام 1973 وحطم خط بارليف وعبر قناة السويس عندما قاده مصريون بعد أن منى بهزائم عندما قاده هيكس باشا وجوردون باشا فى زمن الخديوى.
العالم كله يدرك قيمة ابن البلد المصرى الأصيل، فيلهث وراءه ليستفيد من خبرته وعلمه، فاستورد أحمد زويل وفاروق الباز ومجدى يعقوب وغيرهم كثر، ولم يقل عنهم خبراء أجانب بل حاول نسبتهم إلى نفسه، إلا أن دم ابن البلد المصرى الأصيل الذى يجرى فى عروقهم جعلهم يرفضون ذلك ويتمسكون بهويتهم ويعودون إلى أحضان أمهم وبلدهم مصر ليقدموا لها عصارة علمهم وخبرتهم.
دعونا ننبذ عقدة الخواجة ونستعيد الثقة فى أنفسنا ونؤكد قدرتنا على الإنجاز دون خبراء أجانب ومكاتب خبرة وضوء أخضر من أحد. دعونا نغنى مع الشيخ سيد درويش «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك».
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية