عادت المضيفة مع مضيفة ثانية لإخلاء المكان من صحون الطعام وكؤوس الماء والمشروبات الأخرى ولتسأل أى نوع من الحلوى نفضل. اعتذرت عن عدم الرغبة فى تناول الحلوى مكتفيا بلوح من الخشب تصطف عليه أنواع من الجبن أتسلى بها والزبد المصاحب لها بقية الرحلة. رفيقة السفر الجالسة على يسارى طلبت فنجانا كبيرا من القهوة الأمريكية، وأصرت أن يكون كبيرا. كانت كما فهمت بعد حين أنها تستعد لجلسة تحكى لى فيها قصتها مع سن الأربعين، وهو الموضوع الذى خمنت أن أكون مهتما بالكتابة فيه وعرضت أن تساهم فيه. ألمحت أن لديها ما تقول وعادت تؤكد أنها تريد أن تعفينى من إعادة صياغة حكايتها، وبصدق مباشر تريد أن تطمئن إلى أن قصتها تنشر بدون تدخل طرف ثالث. نظرت لى بطرف عينها لتسأل إن كنت جاهزا. أجبت بنعم ولكن لأى مهمة. ردت بسرعة لأملى عليك قصتى مع الأربعين من العمر.
***
«الأربعون. انظر إلى يا سيدى الكريم، نعم أراك تستغرب أننى أناهز الأربعين من العمر. كل من يلتقى بى يظن أننى فى أوائل الثلاثينيات من العمر. لا أخفى عمرى الحقيقى عندما يسألوننى عنه، وإن كان بعض معارفى يستهجنون ذلك. لست غاضبة من حال بلوغى الأربعين من العمر وإن كنت ما زلت غير قادرة على استيعاب ذلك. كيف أستوعبه وأنا امرأة لم تخض غمار الحياة الفعلية إلا منذ خمس سنوات».
استدارت نحوى لتتأمل وقع كلماتها بعينين دامعتين وقالت.. «عزيزى، السيدة الجالسة بجانبك لم يتعدَ عمرها الحقيقى السابعة عشرة. عملية حسابية فى ظاهرها غير منطقية وإنما هى الحقيقة الفعلية».
توقف القلم، وتوقفت هى عن الكلام. توقعت أن أغرقها بالأسئلة ولم أفعل. تركتها لحظة تطمئن إلى اهتمامى وفضولى لأعود بعدها إلى قلمى فى إشارة لها بأن تستطرد واستطردت.
«أنحدر من أسرة محافظة. طفولتى كانت سعيدة، أمضيتها بين المدرسة فى المدينة والأقارب فى القرية النائية. طفولة لم يشبها سوى التمييز فى المعاملة التى لاحظتها منذ نعومة أظفارى بين الذكور والإناث، صغارا وكبارا. كنت أغار من أشقائى وأعمامى وأخوالى للحرية التى ينعمون بها ولانعتاقهم من القيود المفروضة على إناث العائلة. كانوا بنظرى أقوياء وتمنيت أن أكون مثلهم. لذلك شعرت بفرح عارم فى الثانية عشرة عندما استمالنى أحد ذكور الأسرة دون سواى لإرضاء نزوات لم أكن أعرف فحواها فى ذلك العمر. دفعت ثمن هذه الفرحة العارمة عشرين عاما من حياتى وما زالت تبعاتها تمزقنى حتى الآن. دامت نزوة قريبى صيفا بأكمله لأستفيق بعدها على هول ما ارتكبت. أنزلت بنفسى أشد العقاب. فبرأيى كنت مذنبة، كيف لا وأنا الأنثى موطن الشر والإغراء أغويته. ما كان منى إلا أن حاولت القضاء على كل ما يربطنى بجنس الإناث. قصصت شعرى حتى أصبح رأسى حليقا وتنكرت بزى الرجال. قمصان وسراويل فضفاضة ساعدتنى على إخفاء جسد بدأ يكتمل. كنت أردد فى قرارة نفسى وأكتب على أغلفة كراساتى عبارة وحيدة باللغة الفرنسية «لا أريد أن أكون امرأة». نعم بالفرنسية اللغة التى كنت أتقنها وهربت عبرها من واقعى. أهملت دراستى وغصت فى القصص والروايات التى كانت تنقلنى إلى عوالم أخرى تنسينى ما ارتكبته. غضبى من نفسى كان شديدا ونكرانى لجنسى كان قويا إلى درجة أنهما تسببا فى مشكلات صحية لا تُحصى. لم أخبر أحدا».
«فى السابعة عشرة دخلت متاهة الأطباء. ذهبت بنفسى إلى عيادة طبيب نفسى. هربت من المدرسة وبعت خاتما من الذهب لتسديد كلفة الكشف. عشت منذ ذلك الحين مع مضادات الاكتئاب ومثبتات المزاج. غصت فى ظلمات أفكارى السوداء. فكرت مرارا فى الموت وحاولت أكثر من مرة الانتحار. لم يكن لدى سبب محدد لذلك، جل ما أردته هو الهروب من المعاناة والموت. حاولت جاهدة ألا يلاحظنى أحد أينما ذهبت متخفية خلف الصحف والكتب التى كنت ألتهمها. وفى خضم كل ذلك سافرت إلى الخارج لمتابعة دراستى. زادت عزلتى وعانيت من مشكلات صحية إضافية وتسبب خطأ طبى فى زيادة كبيرة جدا فى وزنى. فكانت أول محاولة جدية لى للانتحار وأول تجربة فى مستشفيات الأمراض النفسية. عدت بعدها إلى بلدى واستقريت بعيدا عن أهلى. انتقلت من عمل إلى آخر ومن معالج نفسى إلى آخر وازداد حبات الدواء التى كنت أتناولها فناهزت الخمس عشرة حبة يوميا. عشت فى تلك الأثناء قصتى حب أو هكذا كان ظنى. انتهت كلتاهما بزواج الحبيب من امرأة أخرى فكأننى كنت اختار شركاء أعرف مسبقا عدم قدرتى على الارتباط بهم. كنت ولا أزال أتهرب من أى ارتباط كان».
***
رفعت القلم ونظرت إلى وجهها. لم يعجبنى ما أراه. رأيت آلاما تتجمع حول العينين والشفتين. لمست أصابع ترتعش. طلبت منها أن تتوقف وطلبت لها مشروبا باردا. رفضت وأصرت على الاستمرار فى أن تملى على ما شاء لها أن تخرجه من عقلها عساه لا يعود. أشارت لى بأن أعود إلى قلمى وأنتبه لما تقول. كانت تقول وكأنها لم تتوقف، «استمر تخبطى فى غياهب الاكتئاب ومجال مستشفيات الأمراض النفسية حتى الثالثة والثلاثين من العمر. ففى ذلك العام، اتخذت حياتى مسارا آخر. إذ قررت فجأة التخلص من الوزن المفرط الذى تراكم على مر السنين فخضعت لجراحة تصغير معدة، وتعرفت من خلال الفيسبوك على معالج نفسى هو الثالث والعشرون ضمن سلسلة المعالجين الذين قصدتهم، تمكن من تفكيك مشكلاتى وتخليصى من الذنب الذى رافقنى على مدى عشرين عاما. هناك وعلى يديه استعدت حياتى التى توقفت فى سن الثانية عشرة. لم يكن الأمر سهلا بالنسبة إلى. كان على من جهة تعلم التعامل مع الطعام من جديد كطفل صغير (لن أنسى يوما طعم ملعقة اللبن الزبادى الأولى التى تناولتها بعد العملية). ومن جهة أخرى تعلم ما يعنى أن أكون امرأة. فعلى مدى عشرين عاما لم أشعر بانتماء لأى جنس كان. لم أكن امرأة ولا رجلا. عدت أسمح لشعرى بأن ينسدل على كتفى. كان الإحساس بنسمات الهواء تتغلغل بين خصل شعرى رائعا ولن أنسى السعادة التى شعرت بها حين ارتديت فستانا قصيرا مستمتعة لأول مرة بأشعة الشمس تداعب بشرة ساقَي».
« إلا أن كل هذا التغيير لم يمر من دون بضعة عثرات. ففى بعض الأحيان لم أكن أعرف نفسى فى المرأة الجميلة التى تنعكس صورتها أمامى فى المرآة. استغربت فى بادئ الأمر نظرات الإعجاب فى عيون الآخرين من الجنسين. صورة المرأة الجميلة هذه أعادت إلى الواجهة مخاوف كان الظن أنها انحسرت فى فترة السمنة. إذ بدأت ألمس إعجابا ورغبة لدى الجنس الآخر. ماذا يريد منى، هو السؤال الذى ظل يتوارد إلى ذهنى عند سماعى أى إطراء حتى لو كان بريئا. كنت أخاف من أى آخر يرى فى مجرد جسد. أزمة ثقة ما زلت أعانى منها حتى الآن. كما أننى لمت نفسى كثيرا كيف لا وأنا أتخلى عن كل السنوات السوداء لأنساها. يا ألله، كم عانيت لأنسى كل تلك المعاناة؟!».
«كانت بالفعل مرحلة عصيبة تجاوزتها. تألقت خلالها مهنيا وجسديا. ولكن الصعوبة الأكبر التى واجهتها تمثلت فى التواصل والتعامل مع الآخرين فى العمل وفى الحياة العادية. فأنا أثور وأنفعل كالمراهقين وأرغب فى تغيير وتصويب كل ما حولى. سنوات العزلة الطويلة جعلتنى أتحسس الخبث والمكر واستغربهما».
«وإذا بى أستفيق يا جارى العزيز ورفيق هذه الرحلة القصيرة ولكن الممتعة لأجد أننى على مشارف الأربعين. هل تعقل ذلك؟ لم أعش حياتى. أشعر بأننى طفلة. سُرقت منى، أو بالأحرى سرقت أنا من نفسى عشرين سنة أظن أحيانا أنها ذهبت هباء، لأعود أحيانا وأذكر نفسى بقوتى وعزيمتى حين كان فى وسعى الاستسلام للاكتئاب وظلماته ولكننى لم أفعل، وصلت إلى الحضيض مرارا وفى كل مرة كنت أنهض.. لم يكن لدى هدف محدد وإنما كنت أقف مجددا وأهرب إلى الأمام حتى أصل إلى بر الخلاص بأقل ضرر ممكن. وحدى فعلت ذلك فأهلى لم يعرفوا حتى الآن إلا ببعض المشكلات الصحية التى عانيت منها».
***
توقفت جارتى عن الكلام وتعلقت عيناها بالشاشة المثبتة فى ظهر المقعد أمامها. تحولت بنظرى من دفترى وقلمى إلى الشاشة نفسها حيث كان رجل وامرأة يتحابان فى هدوء وسلام. من الشاشة استدارت لتواجهنى بابتسامة رضاء وكلمات أنهت بها درس الإملاء.
«هذه قصتى باختصار مع الأربعين. أختمها بمزحة يكررها على مسمعى معالجى النفسى عندما آتى على ذكر معضلة عمرى قائلا: «أنت محظوظة يا ابنتى إذ ستكون روحك بعمر طفلة وأنت تعبرين الأربعين وبعمر الثلاثين عندما تبلغين الخمسين. ابتسمى فالحياة تخبئ لك مفاجآت سعيدة».
***
ربطنا الأحزمة وتهيأنا للهبوط وتواعدنا على لقاء لم نحدد له مكانا أو زمانا.