أدت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التى جرت فى جنوب إفريقيا إلى فقدان حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى للأغلبية البرلمانية التى كان يحوزها منذ إعلان جنوب إفريقيا دولة ديمقراطية متعددة الأعراق وإجراء أول انتخابات بها منذ ثلاثين عامًا بالتمام والكمال، حيث حصل الحزب على 159 مقعدًا من إجمالى 400 مقعدًا بالبرلمان. ومن شبه المؤكد أن الحزب سيتمكن بالرغم من ذلك، من إيجاد حلفاء له من صفوف الأحزاب الصغيرة الممثلة فى البرلمان بما سيكفل له الأغلبية المطلوبة لتشكيل حكومة ائتلافية، والتى تتطلب طبقًا لدستور جنوب إفريقيا 50% + 1 من مقاعد البرلمان.
إلا أنه يبقى لتلك النتائج دلالاتها، وهو الأمر الذى يستوجب محاولة تحليل وتفسير أسبابها، سواء فيما يتعلق باعتبارات داخلية، أو حتى باعتبارات إقليمية ودولية.
وبداية نقول إن الحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى هو الذى قاد، ولعقود طويلة منذ تأسيسه فى عام 1912، النضال فى جنوب إفريقيا لإقامة مجتمع ديمقراطى قائم على المساواة فى الحقوق والواجبات بين مواطنيه، بغض النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو الأصل. ولئن كان من الطبيعى أن يكون السواد الأعظم من أعضائه ومناصريه هم من الأغلبية الإفريقية التى تم حرمانها لقرون من أى حقوق فى بلادها، فإن الحزب حظى أيضًا بدعم واسع فى صفوف المواطنين من أصول هندية والملونين، بل إنه حظى بالدعم من قطاعات من الأقلية البيضاء وتحالف خلال عقود نضاله تلك مع أحزاب ليبرالية وتقدمية خرجت من صفوف الأقلية البيضاء.
وحتى مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين كان نضال الحزب سلميًا لكنه اضطر للتحول إلى العمل السرى وتبنى خيار المقاومة المسلحة بعدما تعرض للحظر التام بعد أن كان يتم التضييق عليه واعتقال قياداته من قبل، وفى مواجهة تبنى الدولة فى جنوب إفريقيا لنظام الفصل العنصرى "الأبارتيد" بشكل رسمى.
وعندما تكلل نضال الحزب، وغيره من القوى السياسية الداعية إلى إسقاط وتفكيك نظام "الأبارتيد"، بالنصر فى نهاية المطاف بدءًا بالإفراج عن أحد قادته التاريخيين والزعيم الأسطورة "نيلسون مانديلا" من منفاه فى جزيرة "روبين" عام 1990 ومرورًا بالمباحثات بين مانديلا ورئيس الوزراء الأبيض حينذاك "فردريك دى كليرك"، ووصولًا إلى الإعلان الرسمى عن سقوط "الأبارتيد" وتنظيم أول انتخابات رئاسية وبرلمانية أسفرتا عن فوز كاسح لمانديلا كرئيس للدولة ولحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى كصاحب أغلبية برلمانية مريحة فى ذلك الوقت، بقى الحزب فى نظر الغالبية الكبرى من الشعب الجنوب إفريقى هو المعبر عن آلام وآمال السواد الأعظم من ذلك الشعب، وذلك بالرغم من أحداث وحوادث مر بها الحزب وتوقع كثيرون على إثرها أنها سوف تؤثر سلبًا على شعبيته وقوته وتماسكه، كان منها على سبيل المثال لا الحصر طلاق مانديلا من زوجته "ويني" التى كان لها دور سياسى مهم أيضًا.
ولقد اشترط مانديلا أن يمكث فترة رئاسية واحدة فقط كرئيس للجمهورية، وبالفعل جاء بعده فى منصب الرئاسة زعيم آخر من زعماء الحزب وصاحب سجل نضالى كبير هو «تابو مبيكى»، ولكن بعد وفاة مبيكى، وبعد فترة انتقالية لعام واحد لاستكمال ولايته الرئاسية الأولى، جاء لزعامة الحزب ومن ثم لرئاسة جنوب إفريقيا «جاكوب زوما»، الذى لم يكن له تاريخ نضالى يضاهى مانديلا أو مبيكى، كما أنه جاء من إقليم «كوازولو ناتال» الذى كان دائمًا فى السابق لديه نزعة انفصالية ما بين إفريقيى جنوب إفريقيا لاعتبارات قبلية وعرقية لها جذور تاريخية. وقد اتسمت فترة حكم «زوما» أنها شهدت نشأة وبروز تيارات معارضة لزعامته ولسياساته داخل حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى، حيث وجه المعارضون له اتهامات مباشرة بالفساد هو وأسرته وبالمسئولية عن انتشار الفساد داخل الدولة، كما اتهمه بعضهم بالديكتاتورية فى قراراته بالمخالفة للتقاليد الديمقراطية الراسخة للحزب حتى فى وقت ممارسته للعمل السرى تحت حكم «الأبارتيد». ولذا لم تكن النهاية الدراماتيكية لحكم «زوما» مستبعدة، والتى بدأت بإجبار الحزب له على الاستقالة من رئاسة الدولة والحزب عام 2018، ثم محاكمته وإصدار حكم بسجنه ثلاث سنوات ثم الإفراج عنه صحيًا بعد ثلاثة أشهر بسبب الاحتجاجات العنيفة من أهالى إقليمه «كوازولو ناتال»، ووصل الأمر إلى حد إعلان تجميد عضويته فى الحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى من قبل لجنته التنفيذية العليا فى يناير 2024، بسبب دعمه لحزب وليد سمى بـ«أومكونتو ويسيزوى» ثم قيادته لهذا الحزب، وهو نفس اسم الجناح العسكرى لحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى فى زمن الكفاح المسلح ضد «الأبارتيد»، وهو الحزب الذى حقق مفاجأة وحل ثالثًا فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وبالتالى، فإن الدلالات الداخلية لنتائج الانتخابات الأخيرة لجنوب إفريقيا ترتبط بالإرث السلبى الذى خلفته فترة قيادة «زوما» للحزب وللدولة على شعبيته بسبب ممارسات «زوما» فى الحكم وابتعاده عن القواعد الشعبية للحزب وتقاليده. ويرتبط بذلك إدخال عنصر رأس المال بشكل متزايد فى المعادلة السياسية فى جنوب إفريقيا وما يرتبط بذلك من مصالح رجال المال والأعمال المحليين والأجانب، وهم تقليديًا كانوا فى معسكر مغاير لذلك الذى يقف فيه حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى وجماهيره، وما اتصل بلك من محاكمات طالت قضايا فساد فى فترة حكم «زوما»، لكنها نسبت لحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى باعتباره الحزب الحاكم آنذاك.
ومن جهة أخرى، فإن التصاعد فى سياسات حكومة الحزب فى الفترة الأخيرة الماضية تجاه التراجع عن فتح الباب أو حتى التساهل مع المهاجرين القادمين من دول إفريقية أخرى إلى جنوب إفريقيا وتزايد التضييق فى هذا المجال، وإن كان ذلك مبررًا من قبل البعض بسبب الحاجة إلى توفير الموارد وفرص العمل لأبناء البلد، فإنه نظرًا لوجود أعداد كبيرة ممن صار لهم حق التصويت بمرور الوقت وطول الإقامة، وهم أصلًا قادمون من بلدان إفريقية مجاورة أثر سلبًا على شعبية حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى لدى تلك القطاعات. كما أن تلك السياسات الأخيرة تركت بعض الأثر أيضًا على علاقات جنوب إفريقيا مع بعض دول الجوار.
وإذا انتقلنا إلى الصعيد الدولى، نجد أن جنوب إفريقيا فى عهد الرئيس «رامافوزا» قد عززت مكانتها الدولية وأكدت استقلالية مواقفها، وأن سياساتها نابعة من تركيبة متناغمة من المصالح الوطنية والالتزام بمعايير موضوعية قانونية وأخلاقية وأخرى ذات جذور تاريخية كما أنها ملتزمة بالوفاء لمن وقف مع شعب جنوب إفريقيا فى نضاله الطويل ضد «الأبارتيد». وعلى هذه الأرضية، فإن جنوب إفريقيا وثقت ارتباطها بتجمع «البريكس» الذى يضم أيضًا روسيا والصين والبرازيل، ولعبت دورًا مهمًا وإيجابيًا لتوسيع التجمع من خلال ضم بلدان أخرى من الجنوب كان من بينها مصر، كما أنها تبنت موقفًا شديد الخصوصية والتميز تجاه حرب إسرائيل فى قطاع غزة، من منطلق علاقات التعاون التاريخية بين حركتى التحرر فى البلدين، حيث قدمت بريتوريا الاتهام تلو الآخر ضد الجيش الإسرائيلى متهمة إياه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال إعادة احتلال القطاع، سواء فى الأمم المتحدة أو لمحكمة العدل الدولية أو للمحكمة الجنائية الدولية.
وهذا الموقف الأخير جلب على جنوب إفريقيا عداءًا حادًا ليس فقط من جانب حكومة إسرائيل وعدد من كبار سياسييها، ولكن أيضًا من جانب الإدارة الأمريكية وعدد من قادة الكونجرس الأمريكى، بالإضافة إلى قيادات غربية أخرى متعاطفة ومتضامنة مع الرؤية الإسرائيلية تجاه الحرب فى غزة، وهو ما جعل البعض يذهب إلى حد القول بأن الدوائر الغربية، خاصة الأمريكية، والإسرائيلية كان لها مواقف واضحة فى تفضيل عدم فوز حزب المؤتمر الوطنى الإفريقية بالأغلبية فى الانتخابات الأخيرة، وربما تكون قد عملت فى هذا الاتجاه.
وفى كل الأحوال، فإن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى جنوب إفريقيا تمنح حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى، الذى ما يزال يحتفظ برصيد كبير لدى غالبية سكان جنوب إفريقيا، كما يحتفظ بقيادات، مثل الرئيس الحالى رامافوزا، لها تاريخ نضالى مشرف، الفرصة للقيام بالمراجعات اللازمة لتحليل أسباب تراجع نتائجه فى الانتخابات الأخيرة، وعلى وجه التحديد مراجعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية فى ظل زيادة معدلات البطالة والفقر، وهو حزب رفع دائمًا راية النضال الاجتماعى بجانب رايتى النضال الوطنى والديمقراطى، خاصة أنه يحمل هياكل بداخله قادرة بما تحتويه من قيادات وكوادر وما تمثله من قيم مؤسسية فى الديمقراطية والعمل الجماعى، لإحداث الإصلاحات اللازمة لتصحيح المسار والعودة بالحزب إلى المكانة التى يستحقها باعتباره الحزب الأهم والأكبر فى النضال التاريخى لشعب جنوب إفريقيا فى القرن العشرين لبناء دولة ديمقراطية متعددة الأعراق والثقافات وتقوم على الجمع بين التقدم الاقتصادى والعدالة الاجتماعية.