قد يستغرب البعض عنوان هذا المقال وقد يتساءل البعض الآخر عن المناسبة التى تدعو إلى الحديث عن هذا الموضوع.
وللمجموعة الأولى من القراء الكرام أقول إننا اعتدنا على الحديث فى الأغلب الأعم من الحالات على أن الغرب تاريخيًا كان يسعى إلى تجزئة وتفتيت الوطن العربى إلى كيانات أصغر، وهناك بالطبع أدلة تاريخية كثيرة وموثقة على ذلك، لكن الواقع التاريخى يؤكد لنا أيضًا أن دولًا غربية، وفى ظروف معينة ومراحل تاريخية معينة ولأسباب محددة، سواء تعلقت بالغرب ككتلة واحدة أو بدول غربية بعينها، دعمت مشاريع تندرج فى سياق توحيد أكثر من بلد عربى معًا أو توسع بلد عربى ليضم بلدًا عربيًا آخر أو أجزاء من أراضيه، وكان لذلك الدعم أسبابه الوجيهة من قبل هذه الدولة الغربية أو تلك، وهو ما سنعرض أمثلة عليه فى هذا المقال.
أما بالنسبة للمجموعة الثانية من القراء الكرام الذين قد يتساءلون عن مناسبة الحديث الآن عن هذا الموضوع، فهو تقارير إعلامية ذكرت أن المبعوث الأمريكى لسوريا ولبنان «السفير/توماس براك» ألمح خلال إحدى زياراته الأخيرة إلى لبنان بأنه إذا لم تسرع السلطات اللبنانية فى تلبية المطالب الأمريكية والغربية، وربما الإسرائيلية أيضًا، بشأن نزع سلاح «حزب الله» ونزع السلاح من المخيمات الفلسطينية فى لبنان والانضمام لاتفاقيات السلام المسماة بـ«الإبراهيمية» التى ترعاها الإدارة الأمريكية فى المنطقة بين إسرائيل والبلدان العربية، فقد تنظر واشنطن فى تأييد توجهات بشأن «إعادة توحيد» سوريا ولبنان تحت قيادة سوريا أو ضم سوريا لأجزاء من لبنان إليها، وجاءت تلك التقارير فى ظل تقارير إعلامية أخرى تحدثت عن إمكانية إقناع القيادة السياسية السورية الحالية بالتنازل عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة مقابل ضم لأجزاء من الأراضى اللبنانية إليها كتعويض عن فقدان الجولان.
ومن الثابت تاريخيًا أن بريطانيا قد دعمت انطلاق «الثورة العربية الكبرى» ضد السيطرة العثمانية على المشرق العربى وشبه الجزيرة العربية، والتى انطلقت بقيادة الشريف الحسين بن على، شريف مكة أنذاك، خلال الحرب العالمية الأولى، وكان المبرر البريطانى لذلك هو إضعاف الدولة العثمانية، والتى كانت تقف مع ألمانيا فى المربع المعادى لبريطانيا وحلفائها فى تلك الحرب، بل وذهبت بريطانيا إلى حد قطع الوعود على نفسها للشريف الحسين بن على بتقديم الدعم لسعيه لتشكيل دولة عربية واحدة تضم معظم شبه الجريرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب تحت حكمه وحكم أبنائه من بعده، إذا ما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء، وكلنا نعلم بالطبع عدم وفاء بريطانيا بعد انتهاء الحرب بذلك الوعد وإدخال نظام الانتداب على يد «عصبة الأمم (التنظيم الدولى السابق على الأمم المتحدة)» من باب توفير الغطاء الدولى لاحتلال بريطانيا وفرنسا لبلدان الهلال الخصيب فى ذلك الوقت.
وبنفس القدر من اليقين، فقد كان لبريطانيا دور فى تشجيع قيام جامعة الدول العربية فى عام 1945 تزامنًا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبواكير الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقى بزعامة الاتحاد السوفييتى السابق، حيث كان من مصلحة التحالف الغربى، وبريطانيا على وجه الخصوص، آنذاك ضمان دعم الحكومات التى كانت موجودة فى السلطة فى البلدان العربية المستقلة آنذاك والتى أسست الجامعة للغرب الرأسمالى فى مواجهاته التى كانت تبدو آنذاك وشيكة مع الشرق الشيوعى، كما كان الهدف حماية تلك الحكومات من أى ثورات أو انتفاضات شعبية داخلية ضدها وضد تحالفها مع الغرب، وهو الحال بالنسبة لمعظمها فى ذلك الوقت، قد تأتى إلى مقاعد الحكم بتيارات مناوئة للغرب، أو حتى متحالفة مع المعسكر السوفييتى، مثل التنظيمات والأحزاب الشيوعية العربية. ومن الصحيح أن جامعة الدول العربية مرت بمراحل تحولات فيما بعد جعلتها تعكس الرغبات الشعبية العربية فى تجسيد القومية العربية والمشاعر العروبية على الأقل فى أشكال متنوعة من التضامن العربى والعمل العربى المشترك، ما دفع الجامعة لتبنى مواقف مناهضة للغرب، إلا أن ما ذكرناه فى بداية هذه الفقرة بشأن الدعم البريطانى لإنشاء الجامعة فى عام 1945 هو من قبيل الحقائق التاريخية التى لا يمكن إنكارها.
وفى تسلسل السياق التاريخى، فقد سعت بريطانيا بقوة ما بين إنشاء إمارة شرق الأردن تحت الحكم الهاشمى فى 11 أبريل 1921، وبين قيام الثورة ضد الحكم الهاشمى فى العراق فى 14 يوليو 1958، إلى توحيد العراق والأردن تحت العرش الهاشمى، وإن كان ساسة بريطانيين قد برروا ذلك آنذاك بأنه لرد الجميل لأبناء وأحفاد الشريف حسين بن على نظرًا لتعاونه مع بريطانيا فى إطلاق الثورة العربية الكبرى تزامنًا مع الحرب العالمية الأولى، فإن الوقائع التاريخية تؤكد أن ذلك كان فى الأساس لخدمة مصالح بريطانية وغربية تمثلت فى السعى لضرورة إيجاد حليف قوى للغرب يعتمد عليه فى المشرق العربى، وتعزز ذلك المسعى البريطانى والغربى بشكل خاص إبان معارك سياسية منذ منتصف الخمسينيات لتمرير صيغ أحلاف غربية فى منطقة الشرق الأوسط كان فى مقدمتها «حلف بغداد» الشهير الذى كان يستهدف رسميًا مجابهة فرص المد الشيوعى فى المنطقة، ولكن أيضًا، ومن الناحية العملية، كان يستهدف مجابهة حركة المد القومى العربى ممثلة فى مصر تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وفى سوريا فى ظل توجهات عروبية لقادتها السياسيين والعسكريين خلال تلك المرحلة، وهى مساعٍ بريطانية وغربية لم تتوقف إلا بسقوط الحكم الهاشمى فى العراق فى يوليو 1958.
وإذا انتقلنا من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن حالة العراق والأردن إلى حالة سوريا ولبنان فى الماضى، نجد أن واشنطن دعمت وساندت الدخول العسكرى السورى إلى لبنان فى الأول من يونيو من عام 1976 فى إطار صفقة قبلت بموجبها واشنطن بالسيطرة الفعلية السورية، التى امتدت لما يقرب من ثلاثة عقود بعد ذلك، على مقدرات الأمور فى لبنان مقابل أن يقلب التدخل العسكرى السورى موازين القوة فى الحرب الأهلية التى كانت دائرة آنذاك فى لبنان بما ينقذ قوى اليمين الانعزالى اللبنانية من هزيمة محققة كانت على وشك الوقوع لها على أيدى تحالف ضم كلًا من الحركة الوطنية اللبنانية بزعامة الزعيم اللبنانى الكبير الشهيد كمال جنبلاط ومنظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الفلسطينى الكبير الراحل ياسر عرفات، وهى صفقة تحققت فعليًا على أرض الواقع، حيث تحولت دفة الأوضاع العسكرية الميدانية تمامًا وتلقت الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية ضربات عسكرية متتالية من الجيش السورى الذى دخل لبنان فى زمن الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد بدعوة من الرئيس اللبنانى المنتهية ولايته الرئاسية آنذاك الراحل سليمان فرنجية، وهى ضربات مكنت اليمين اللبنانى فى ذلك الوقت من استعادة توازنه بل أن يصبح فى الموقع الأقوى عسكريًا وسياسيًا، وكان التصرف الأمريكى ليس رغبة ًفى «إعادة توحيد» سوريا ولبنان، بل لإقصاء فرص قيام صيغة حكم تجمع بين الانتماء العروبى والتوجهات الديمقراطية والتقدمية فى لبنان فى تلك المرحلة.
وهكذا نرى من الحالات الأربعة التى أشرنا إليها فيما سبق فى هذا المقال أنه على مدار التاريخ الحديث والمعاصر للوطن العربى ولعلاقاته مع الغرب، لم يكن للغرب أى موقف «مبدئى» مع أو ضد قيام مشاريع وحدوية عربية أو تجاه أى تطلعات لدول عربية لضم دول عربية أخرى أو جزء من أراضيها إليها، لكن الدافع الرئيسى له كان البحث عما يحقق مصالحه ويلبى احتياجاته من المنطقة العربية، سواء على الأصعدة الاستراتيجية أو السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية أو الثقافية.