من الضرورى أن يحلّل العرب بموضوعية وصدق مع النفس عرض بايدن الأمريكى الأخير بشأن إيقاف الحرب التدميرية فى غزة، وعليهم أن لا يلدغوا من نفس الجحر مرة أخرى.
فنحن أمام لعبة التفاف جديدة قبل أن تكون مبادرة إنسانية لإنقاذ أرواح. إنه التفاف حول صورة ازدراء عالمية واسعة وعميقة لدولة وقفت أكثر من ثمانية شهور وهى تزوّد الجيش الصهيونى بكل أنواع العتاد الحديث المدمّر القاتل، وتسهّل انضمام المتطوعين من داخلها وخارجها ليحاربوا مع ذلك الجيش، وتقدّم الأموال بسخاء منقطع النظير لمساعدة حكومة ذلك الجيش على تحمّل أعباء تلك الحرب التى وصفها كل العالم بحرب الإبادة المجنونة، وتمنع المرة تلو المرة مجلس الأمن بصفاقة لم يرَ مثلها العالم من اتخاذ قرار دولى لإيقاف تلك الحرب وإنقاذ آلاف الأرواح الفلسطينية التى تموت من الجوع والعرى والتشريد الممنهج تحت أنقاض مبانى المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والسّكن المهدّمة عن بكرة أبيها.
وهو التفاف حول إعلام غربى بوجهين كاذبين، وحول خطابات سياسية منافقة تقول ما لا تعنى وتفعل ما لا تدّعى، وحول تجييش ممنهج من قبل استخباراتها لكل مساعدة ودعم للكيان الصهيونى ولكلّ تراخٍ وتشويه فى الفعل العربى المطلوب.
وهو التفاف حول قرار عربى متواضع بالمناداة بعقد مؤتمر دولى جديد لينظر فى الموضوع الفلسطينى برحمة وإنسانية بعد أن تلاعبت أمريكا بالموضوع طيلة الثلاثين سنة الماضية ودخلت من خلال مباحثات أوسلو كطرف محايد، بينما كانت طرفًا غير محايد، وهى تتفرّج على الاستيلاء الصهيونى لمزيد من الأرض الفلسطينية، وتبارك منع كل مقاومة مشروعة من قبل أية جهة عربية وإسلامية ضدّ الاستعمار الصهيونى المتعاظم سنة بعد سنة، بل تفعل أكثر من ذلك بالضغط المستمر على كل الدول العربية لتطّبع مع ذلك الكيان الاستعمارى حتى ولو كان قد انقلب إلى وحش لا يشبع ولا يرحم ولا يؤمن بذرة واحدة من القيم الإنسانية والأخلاقية. إنه خوف أمريكى من خروج الموضوع الفلسطينى من اليد الأمريكية.
إنه التفاف حول فضائح الكونجرس الأمريكى وهو يتصرّف كميليشيا تهدّد قضاة محكمة الجنايات والعدل الدولية وغيرهما من المؤسسات الحقوقية، بل يهدّد بأنه سيفعل كذا وكذا فى عائلاتهم وأرزاقهم لو أنهم حكموا على مجرمين يمينيين ملطّخى الأيدى والأوجه بدماء أطفال فلسطين ونسائها ورجالها.
وأخيرا فإنه التفاف حول وعى إنسانى حقوقى فى صفوف شباب وشابات أمريكا واكتشافهم المتأخّر بكذب اللوبى الصهيونى والنظام السياسى الأمريكى حول حقوق متصورة وادعاءات تاريخية لا وجود لها، وبالتالى انفضاضهم من حول الدعم للكيان الصهيونى واللوبى الصهيونى ومن الحزب الديمقراطى الحاكم المهدّد بخسارة الانتخابات الرئاسية المقبلة. إذ تبّين مؤخرًا أن حوالى 15% من الذين صوّتوا للحزب الديمقراطى فى الانتخابات الماضية لن يصوّتوا له فى انتخابات نوفمبر المقبلة.
نحن فى الحقيقة أمام تمثيلية التفافية تتكرّر فصولها منذ عشرات السنين، يلعبها الكيان الصهيونى والاستعمار الغربى بشأن كل مواضيع حقوق الأمة العربية وكل محاولاتها للخروج من محن التجزئة والمشاحنات المفتعلة وتجييش بعض السماسرة فى طول وعرض الوطن العربى.
من هنا، نقولها كلمة صريحة واضحة للمسئولين عن أنظمة الحكم العربية ولمؤسسات المجتمع المدنى العربية: حلّ الموضوع الفلسطينى وحلّ كل موضوع عربى يحتاج إلى بناء قدرات عربية ذاتية مستقلة متعاونة. عند ذاك ستفتح الأبواب، وماعدا ذلك فإننا سنظل ندور وندور حول أنفسنا تمامًا، كما يريده الغرب الاستعمارى وتريده الصهيونية العالمية.