«الرواية» بين الموروث والوافد - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الرواية» بين الموروث والوافد

نشر فى : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:30 م

... وأتابع الحديث عن كتاب «زمن القص ــ شعر الدنيا الحديثة» للدكتور جابر عصفور (2019)؛ الذى ورث عن أستاذه الكبير الراحل عبدالعزيز الأهوانى نزعته العقلانية السقراطية التى كان يشيعها فى كل من حوله (خصوصًا حينما كان يجمع طلابه وتلامذته فى منزله كل ثلاثاء لكى يتناقش فى الجديد من قضايا الأدب ومناهج النقد) وقد أخذ عنه الدكتور جابر نزعته العقلانية التى تحتكم إلى العقل وحده فى تقبل الأفكار أو رفضها. أما نزعته السقراطية التى ورثها عنه أيضًا، فتتجسد فى عدم قبول أى فكرة إلا بعد وضعها موضع المساءلة، وقد تعلم من الأهوانى أن طرح السؤال الحقيقى قد يكون أكثر أهمية من الإجابة، وأن أهم ما فى مناهج البحث هو الجوهر الذى يبدأ وينتهى بالسؤال الذى لا يكف عن توليد الأسئلة.
ولعل هاتين النزعتين هما المتحكمتان جذريا فى معالجة موضوعات هذا الكتاب الذى فصّل فيه الدكتور جابر القول عن فن الرواية، فنيا وتاريخيا، وأعاد صياغة فصول الكتاب الذى سبق، وأن صدرت طبعته الأولى عام 1999 عن مكتبة الأسرة بعنوان «زمن الرواية»؛ ليراجع بعض المقولات ويعدلها جذريا ويعيد النظر من جديد فى العلاقة بين هذا الفن الوافد، وبين جذورٍ للقص لا يمكن ولا ينبغى إغفالها فى تراثنا العربي؛ ومن ثم يعيد صياغة ما يتصل بفجر الرواية العربية أو نشأتها فى ضوء هذه المراجعة الجذرية.
يؤكد الدكتور جابر على هذه المراجعة فى مقدمته؛ يقول إنه فى هذه الطبعة الجديدة، والمختلفة من «زمن الرواية»، جانبٌ كبيرٌ من محاولةِ تأصيلِ فنِّ الرواية من ناحية علاقتهِ بالتراث أولًا، ومن منظورِ علاقتِهِ بالأنواعِ المرتبطة به، بوصفه فنًّا مَدينيًّا. ولعل ما قدمه الدكتور جابر عبر سنوات طويلة من تأصيل وتنظير وتتبع لعلاقة فن الرواية وارتباطها الوثيق بالمدينة بمعناها السوسيولجى، و«التاريخ« بالمفهوم الفلسفى والثقافى، يحتل مساحة كبيرة ومتميزة من النقد العربى المعاصر؛ يقول:
«والحق أننى كلما تعمقتُ فى دراسة تراثنا بوجهٍ عام، وفى تراثنا القصصى الحديث بوجهٍ خاص، تأكد فى داخلى اليقين بأن فن الرواية، أو القص بوجه عام، هو فنٌّ لا يوجد إلا فى المدينة، وبالمدينة، وللمدينة بالدرجة الأولى، كما أنه فنٌّ ينشأ ويتطور ويتغير فى تطوره بالتاريخ وفى التاريخ فى الوقت نفسه.
وهو بالتأكيد قد قدّم فى هذا الكتاب تأصيلًا مختلفًا لنشأةِ هذا الفن، وتطوره فى آن «فمن الواضحِ أننى لستُ مع المدرسة التى ترى أننا استوردنا فن القص (Narration) من الغرب تمامًا، أو أن رواية «زينب» سنة 1913، هى الرواية الأولى فى الأدب العربى الحديث، فأنا من الذين يؤمنون بأن فنَّ القصِّ تأسَّسَ فى الأدب العربى نتيجة عامِلَينِ: عامل داخلى يتصل بتقاليد القص العربى وأنواعهِ السرديةِ المختلفة، ابتداء من السرد التاريخى، وليس انتهاء بالقص الرمزى الفلسفى والصوفى، فضلًا عن الملاحم أو السِّيَر الشعبية. وإذا أنكرنا وجود هذا العامل كذَّبتنا روائع قصصية معترف بها فى العالمِ كله مثل «ألف ليلة وليلة» أو ما يماثلُها فى التأثيرِ. أما العامل الثانى فهو العامل الخارجى الذى يتصل بالرواية الأوربية وتقاليدها وتحوّلاتها فى الوقت نفسه».
لا يكتفى الدكتور جابر أبدًا بإطلاق الفروض أو اختبار المقولات على المستوى النظرى بل دائمًا ما يدعمها بشواهد نصية وتحليلات تطبيقية تدعم هذه الفروض وتؤكدها وتطمئن إلى سلامتها؛ ولهذا سنجد إضاءات مركزة للنصوص العربية الأولى فى القرن التاسع عشر التى حملت بذور فن «الرواية» وجمعت بين أشكال القص العربى الموروثة وبين عناصر من الشكل الوافد الجديد، ليتوقف الدكتور جابر عند نصوص مبكرة مثل ترجمة رفاعة الطهطاوى لرواية فينلون الفرنسى «وقائع الأفلاك فى مغامرات تليماك» أو لنص أحمد فارس الشدياق «الساقُ على الساق فيما هو الفارياق» (سنة 1855) أو فى عملٍ موازٍ مثل: «وِي! إذن لست بإفرنجى» (سنة 1859) وصولا إلى «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحى. إنها المعالجة التى تجمعُ بين الأصالة والمعاصرة فى صياغةٍ منهجيةٍ، لا تُنكرُ عَظَمة تراثها القصصى وفتنة العالم كله به، كما لا تنكرُ التفاعل الطويل والمستمر بين الموروث والوافد، فى التاريخ وبالتاريخ.