«لابد أننى أعيش على الكوكب الخطأ». أقول لنفسى ذلك وأنا أتابع أحداث الحرب المدمرة على شاشة التليفزيون، كأننى أشاهد فيلم كرتون مدبلجا أو فيديو «أتارى»، هذه اللعبة القتالية التى ظهرت فى السبعينيات ويعرفها جيدا من هم فى مثل عمرى، وصارت حاليا من حفريات القرن الماضى بالنسبة لجيل ألفا. تذكرت أيضا فيديو قد انتشر قبل حوالى عشر سنوات يصور معركة حياة أو موت بين أسد البحر والأخطبوط، وكان الأول قد جاء غازيا إلى مياه البحر المتوسط، من المحيط الهندى عبر قناة السويس، وقرر أن يستوطن فى المنطقة منذ عام 2012، وأصبح يشكل خطرا على البيئة البحرية فهو نوع من أشرس الأسماك الغازية ومن الصعب القضاء عليه نهائيا بسبب سرعة تكاثره. فى الفيديو، انتهت المعركة بانتصار أسد البحر ومقتل الأخطبوط الذى توقف تماما عن الحركة وتقطعت أذرعه الثمانية، فى حين ظل رأسه الضخم فى فم سمكة الأسد بعد مقاومة عنيفة، فهو كائن شديد الذكاء لديه قدرة كبيرة على الهروب والخداع والتمويه.
تشاءمت من النهاية، لأن إسرائيل أطلقت اسم «الأسد الصاعد» على المغامرة الاستراتيجية الكبرى التى بدأتها فى الثالث عشر من يونيو الجارى، واعتبرت أنها إذا نجحت فى قطع رأس الأخطبوط الإيرانى، بعد أن قوضت أذرعه فى المنطقة، قد تعيد ترتيب ميزان القوى فى الشرق الأوسط وتسيطر عليه، وإن فشلت أو قوبلت برد عنيف فقد تفتح أبواب حرب كبرى لا تحمد عقباها لطالما سعى إليها نتنياهو، فدولته قائمة على فكرة الصراع الممتد. اختار رئيس الوزراء الإسرائيلى عنوان «الأسد الصاعد» لإكساب العملية العسكرية صبغة دينية توراتية، فهو مستلهم من سِفر «العدد»، رابع أسفار الكتاب المقدس العبرى، وتحديدا من الآية 23:24 «هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد. لا ينام حتى يأكل فريسته ويشرب دم قتلى»، كناية عن قدرة الشعب على مواجهة أعدائه ورفض الضعف. كتب نتنياهو هذه العبارة المجازية بخط يده قبل العملية بساعات ووضع الورقة بين أحجار حائط البراق ببلدة القدس القديمة. وقرر أيضا أن تبدأ ضربته على إيران قبيل يوم الغدير وهو عيد ولاية الإمام على رضى الله عنه وإثبات أحقيته بالخلافة، الذى يحتفل به الشيعة سنويا يوم الثامن عشر من ذى الحجة.
• • •
الإسقاطات الدينية والدلالات التاريخية تلعب دورا كبيرا فى الصراع، فالأساطير القديمة تلقى بظلالها على هذه الحرب الحديثة جدا التى تشبه ألعاب الفيديو وقد أشعلها بنيامين نتنياهو، ابن أستاذ التاريخ اليهودى بنزايون ميليكوفسكى، ذو الأصول البولندية. وصلت عائلته إلى فلسطين عام 1920 أثناء الانتداب البريطانى وتغير لقبها إلى «نتنياهو» مع الهجرة إلى أرض الميعاد، بعد إعلان بلفور. عمل الأب فى أكثر من جامعة أمريكية وعاش فى الولايات المتحدة لسنوات طويلة وكان ناشطا فى الحركة الصهيونية، كما كان محررا للموسوعة العبرية وسكرتيرا لزئيف جابوتنسكى، مؤسس منظمة الدفاع عن النفس اليهودية، والحركة الصهيونية التصحيحية التى سعت إلى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين من خلال وسائل أكثر حسما من الصهيونية التقليدية. وقد ترأس خلال أربعينيات القرن المنصرم المنظمة الصهيونية الجديدة فى أمريكا، الأولى من نوعها فى الولايات المتحدة بشكل رسمى، وتعتبر نفسها حامية لإسرائيل الكبرى.
هى أيضا حرب ضد نظام إسلامى يحكم بلدا من أقدم حضارات العالم، وقد اتخذت إيران من الأسد رمزا لها منذ القرن الثانى عشر الميلادى. وما بين 1780 و 1980 كان شعار الدولة الرسمى هو «شير» و«خورشيد» باللغة الفارسية أى الأسد والشمس، ولا يزال الشعار شائعا حتى اليوم بين القوميين ومجموعات المعارضة، ما يلفت النظر إلى دلالة أخرى قصدها نتنياهو على الأغلب، ألا وهى الإحالة إلى دولة الشاه ووريثه الشرعى الموجود فى الخارج والذى يطرح نفسه كبديل للنظام الحالى ويسعى إلى الرجوع لسدة الحكم، فعائلة بهلوى كانت قد أدخلت تغييرات على شكل العلم كى يبدو أكثر حداثة، عند بداية توليها السلطة عام 1925. وظهر العلم كما عرفناه بألوانه الثلاثة الأخضر والأبيض والأحمر، التى ترمز إلى الرخاء والنقاء والتضحية، ويتوسطه أسد حاملا سيفه فى وجه الشمس، محتفظا على هذا النحو بمعانى الكنايات التاريخية التى اقترنت بقوة بلاد فارس وسطوعها. ولكن بعد قيام الثورة، استبدلت الجمهورية الإسلامية الأسد والشمس بلفظ الجلالة باللون الأحمر، بينما يحيط بالمستطيل الأبيض إطار كُتب عليه «الله أكبر» 22 مرة بالخط الكوفى، وقد صممه حامد نديمى عام 1980. لكن هذا لا يمنع أن الأسد ما زال يتمتع بهيبته فى الثقافة الإيرانية، خاصة أنه ارتبط بسيدنا على بن أبى طالب الذى يلقب بالحيدر وأسد الله الغالب، ما يفسر ما تلفظ به السيد خامنئى حين قال قبل أيام: «باسم حيدر تبدأ المعركة»، أملا فى تحقيق «الوعد الصادق» بالنصر.
• • •
كل هذه الرموز والتوريات الخاصة بالأسد والحرب الإيرانية -الإسرائيلية تقودنى إلى استخدام الحيوانات فى القصص الخرافية المستوحاة من الأدب القديم، كما فعل لافونتين فى أعماله التى تناول من خلالها أفكارا سياسية وإنسانية جريئة فى القرن السابع عشر. واحدة من هذه الحكايات كانت بعنوان «الحيوانات المريضة بالطاعون»، يروى فيها أنه حين ضرب الوباء مملكة الحيوان دعا الأسد، ملك الغابة، إلى مجلس عام للنظر فى العلاج واتقاء الغضب الإلهى الذى انصب عليهم. طلب من سائر الحيوانات الاعتراف بذنوبهم حتى يتم التكفير عنها وتلاشى البلاء، وكانت النتيجة التضحية بالحمار الذى أقر بجرمه رغم تفاهته، فقرر الأسد والثعلب التضحية به، واعتماده ككبش فداء.
يؤكد المؤلف على غياب العدالة وازدواجية معايير المحاسبة: «اعتمادا على قوتك أو بؤسك، يكون الحكم عليك، أبيض أم أسود»، أى إن القوانين تسقط على المجرمين الصغار، فى حين يفلت الكبار من العقاب، والسلطة تجعل من لا يملكونها ضحايا. هذه هى الحكمة التى استخلصها الكاتب فى نهاية القصة ليصف بها قانون الغاب، القوى يأكل الضعيف، والغلبة لمن ينتصر ويصبح ملك اللعبة. ولا عزاء لباقى الحيوانات.