السياسة الخارجية المصرية: ضرورات التغيير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:40 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة الخارجية المصرية: ضرورات التغيير

نشر فى : الخميس 5 أغسطس 2010 - 12:05 م | آخر تحديث : الخميس 5 أغسطس 2010 - 12:05 م

 أقرأ لكتاب وصحفيين غربيين مقالات يحثون فيها قادة النخب الحاكمة فى بلادهم على إجراء تغييرات فى النظام السياسى القائم فى بلادهم. وصف أحد الصحفيين الأمريكيين حال السياسة فى بلاده بأنها غبية ومتسائلا إن كان فى الإمكان أن تحتفظ الولايات المتحدة بمكانتها كدولة عظمى إذا كانت سياستها الداخلية غبية إلى هذا الحد.

يجرنى هذا التساؤل إلى مناقشة موضوع لا نهتم به كثيرا فى بلادنا، وهو العلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والتأثيرات المتبادلة بينهما. أعرف أن كثيرا من المحللين السياسيين لا يهتمون كثيرا بالربط بين السياستين الداخلية والخارجية فتخرج تحليلاتهم فى الغالب قاصرة فى أحسن الأحوال ومتجنية فى أحوال أخرى.

المثال الذى يقدمه كاتب أمريكى ليدلل به على غباء السياسة والسياسيين فى أمريكا يتكرر أمامنا فى بلاد كثيرة، وإن اختلفت التفاصيل. يقول إن الإصرار على عدم تغيير مبادئ دستورية معينة أدى بمجلس الشيوخ الأمريكى إلى أن يخضع لنفوذ جماعة أو أخرى من جماعات الضغط يتوافر لها المال الكافى، الأمر الذى يؤثر بشكل حاسم فى عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. لا توجد عدالة فى توزيع المكانة بين أعضاء المجلس، فالعضو الذى يمثل ولاية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ملايين قليلة يساوى بصوته العضو الذى يمثل ولاية تعدادها يتجاوز الثمانين مليونا. بمعنى آخر 41 سيناتورا يمثلون 11% من سكان الولايات المتحدة يستطيعون منع إصدار قوانين يوافق عليها 59 شيخا يمثلون 89% من الأمريكيين. بمعنى آخر إذا استحوذت جماعة ضغط تمثل دولة أجنبية على أصوات 41 عضوا استطاعت التأثير بقوة على السياسة الخارجية الأمريكية. وهو ما يحدث بالفعل من جانب الأيباك.

من ناحية أخرى، ينتقد عدد متزايد من الأكاديميين والصحفيين اعتماد النظام السياسى الأمريكى على «شخصية الرئيس» كعنصر مهم من عناصر صنع السياسات وتنفيذها. مثلا جاء أوباما إلى البيت الأبيض محمولا على أكتاف حملة انتخابية ركزت على صفاته الشخصية كاللون والفصاحة وصغر السن وطهارة اليد. وبعد أقل من عامين، كانت كل هذه الصفات قد فقدت أهميتها فى ظل إخفافات عديدة وأهمها الفشل المريع فى حرب أفغانستان والبطء الشديد فى إنعاش الاقتصاد الأمريكى. لا يفوتنا أن المسئولين عن صنع السياسات الخارجية فى معظم الدول يهتمون بالتطورات الحاصلة فى صفات رؤساء الدول الأخرى. يراقبون صعود شعبيتهم وهبوطها وتدهور صحتهم أو تحسنها لارتباطها بالأمن القومى للدولة وبالتالى فهى ترتبط بالأمن الإقليمى والدولى.

أتصور أنه لا ديمقراطية أو تقدما يرجى فى دولة تحترم إلى حد التقديس دستورها ومؤسساتها وترفض طبقتها الحاكمة تطويرها أو تعديلها، فى مثل هذه الدولة يكون الاستقرار السياسى فى عداد الوهم الكبير أو الغطاء الذى تختفى تحته احتمالات بعضها رهيب وأخطاء تتسبب فى انحدار مستوى الأداء فى السياستين الداخلية والخارجية.

فبالتحليل المتأنى لمسار السياسات الخارجية المصرية نكتشف أن تقديس أسلوب معين، مسئول عن أخطاء رهيبة، الآن نعترف بها، وندفع ثمنا باهظا من ثروات مصر وسمعتها لإصلاحها أو إخفائها. كان سمة جيدة البطء المتعمد أو التروى فى صنع القرار فى الشأن الداخلى، ولكن فشل فى أن يكون سمة جيدة حين تمدد ليصبح الأسلوب الأوحد فى صنع السياسات الخارجية.

لم نجد صعوبة فى فهم حكمة التروى الشديد فى الشأن الداخلى فمعدلات التطور الداخلى أصلا بطيئة ومتدرجة، إلا أننا وجدنا وما زلنا نجد صعوبة فى فهم حكمة البطء فى صنع السياسة الخارجية. فالسياسات الدولية، سواء تعلقت بحروب وصراعات ومفاوضات ومؤامرات أم بتدفقات فى التجارة واختراعات وزيارات، تتميز بالسرعة ولا تخلو من عناصر المفاجأة، مما يستدعى بالضرورة نشاطا متواصلا ومؤسسات مستعدة دائما ببدائل جاهزة وسريعة.

نعرف أن البدائل ليست سوى واحد من أساليب صنع السياسة الداخلية، بينما تكاد تكون السبيل الوحيد أو الأمثل فى صنع السياسة الخارجية. ما نعرفه مثلا عن عملية صنع السياسات الداخلية فى مصر يؤكد أن أحدا لا يضع بدائل ليختار من بينها وإنما ندخل تجارب واحدة بعد الأخرى، الأحدث تمحو إيجابيات ما سبقها. هكذا دخلنا نحارب النمو جميعا من ليبرالية تعتمد الحس الوطنى المعادى للاستعمار البريطانى إلى رأسمالية الدولة إلى أحد نماذج الاشتراكية إلى انفتاح سائب إلى ليبرالية متوحشة على أمل عمل تراكم يمهد لنموذج رأسمالى بوجه إنسانى.

نستطيع أن نتحدث بإسهاب عن عواقب هذا التخبط فى عملية بناء الأمة وفى صنع السياسة الداخلية على حالة مصر الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، ولكن ما يهمنا الآن هو العواقب الناجمة عن نقل منطق العمل الداخلى واستخدامه فى صنع سياسات خارجية وتنفيذها صنع السياسة الخارجية. هذه العواقب، هى تلك التى تتضمنها القائمة الطويلة التى تنشغل بها حاليا أجهزة الدبلوماسية المصرية، فى جهود متواصلة ومحاولات تكاد تبدو يائسة لتخفيفها أو مداراتها أو تأجيلها. نختار فيما يلى نماذج من هذه العواقب أو كما يحلو للبعض تسميتها نقائص:
أولا: لا يوجد فى العالم العربى أو خارجه أحزاب وتيارات وجماعات وهيئات تدعم داخل أوطانها السياسات الخارجية المصرية وتدافع عنها، كالحال بالنسبة لسياسات دول كثيرة منها السعودية وسوريا وإسرائيل وتركيا (الآن) وإيران وأمريكا، والحال بالنسبة لمصر نفسها خلال معظم عقود القرن العشرين حين توفر لها الدعم والتأييد فى كثير من أنحاء العالم العربى وفى أفريقيا وآسيا. بينما، نجد فى مصر حاليا أحزابا وجماعات وتيارات وأفرادا بل ومؤسسات تابعة للدولة المصرية تروج لسياسات دول أخرى ومنها إسرائيل أو تدعمها.

ثانيا: كثير من صانعى السياسة والقرار فى الخارج يتحدثون عن حالة عدم الاستقرار فى مصر ولا يتحدثون عن حالة الاستقرار ويخططون لبدائل بينها العمل على حث النخبة الحاكمة المصرية على إنهاء حالة عدم استقرار والانتقال بالسرعة الواجبة والحسم المناسب إلى مرحلة جديدة تتسم باستقرار سياسى حقيقى.

ثالثا: صورتان لمصر فى دوائر صنع السياسة فى الخارج تبدو فى واحدة منها مكبلة بعلاقة مع الولايات المتحدة فشلت حكومات مصر فى تعميقها لتصبح علاقة خاصة أو فى تطبيعها لتصبح علاقة عادية. وتبدو فى الثانية مقيدة وطاقتها وأرصدتها الإقليمية مستنفذة باتفاقية ثنائية مع إسرائيل.

رابعا: قناعة عامة داخل «جماعة السياسة الخارجية»، التى تضم أكاديميين وممارسين ودبلوماسيين سابقين ومحللين سياسيين، بأن جيل الشباب من المتخصصين لا يعرف بالدقة ترتيب القضايا التى تشتغل عليها أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية. يعيبون على الدبلوماسية المصرية أنها تظهر حينا أو حيث لا يحتاجها أحد، وتغيب أحيانا كثيرة ولمدد تطول وعن قضايا لا تحتمل الغياب، وإن نشطت فلتصحح وتشرح وتبرر.

حان الوقت لتحرير السياسة الخارجية المصرية من كوابح داخلية تبطئ حركتها وتحد من اتساع آفاقها ومن قيود خارجية بعضها تفرضه المبالغة فى تضخيم التزامات ناتجة عن اتفاقيتها مع إسرائيل والبعض الآخر تصنعه أوهام فى العلاقة مع الولايات المتحدة وحلفائها فى العالم العربى.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي