أعجبنى وصف الراوى فى وثائقى جميل عن المحطة الرئيسية للقطارات برمسيس والمشهورة بمحطة مصر. وصف الفضاء الرئيسى لقاعة المحطة بأنه «قد يعكس رؤيا فنان معذب». ولكن هل يحملنا هذا التعليق على التعاطف مع الفنان وهو هنا معمارى أو متخصص فى العمارة الداخلية أم نتعاطف مع الجمهور وأنا واحد منهم والذين يضطرون فى كل مرة وهم فى طريقهم للسفر للعمل أو للعودة للمنزل أو لأى غرض آخر أن يواجه بهذا المنشور الهندسى الثلاثى الحاد الهابط من السقف المرتفع للمحطة حتى يكاد يلامس مصغرا لهرم موضوع على أرضية البهو الرئيسى للمحطة. وأكاد أسائل فى كل مرة عما هو المغزى من هذا العمل.
على النقيض من التدخلات العديدة فى هذا الفضاء الداخلى التى استهلكت ملايين الجنيهات لكى نراها، نرى فى خارج مبنى المحطة أرضيات فى مساحات كبيرة تكاد تخلو من أى مكان مظلل ولا تملك إلا أن تتساءل لماذا لم يكن لها نصيب من تلك الأموال أن يزرع به أشجار توفر بعض الظلال وتحسن من جودة الهواء أو تركب سقائف قماشية معالجة ضد الحريق توفر لعشرات الآلاف المرتادين اليوميين للمحطة ما لا شك أنهم فى أمس الحاجة إليه من ظل بارد نسبيا وبعض دقائق من استرداد الأنفاس قبل الدخول أو بعد الخروج من تلك القاعة التى لا تتسع للجميع؟
***
ليست محطة مصر المثال الوحيد على افتقاد العديد من التدخلات المعمارية والعمرانية المعاصرة، فى مدننا الحساسة، المطلوبة للسياق الإنسانى والبيئى والاقتصادى ولكن العديد من النماذج لا نستطيع أن نخطئها فى العديد من الأماكن التى نعيش أو نعمل فيها. أحيانا ما أشير ببساطة للمبانى المحيطة بجامعة القاهرة (وربما بداخلها أيضا) وأنا أسأل طلابى ما الذى أوصلنا إلى هذا؟ وهو سؤال للتفكير لأن إجابته مركبة وللكثيرين نصيب من المسئولية فيها.
ولكن لا بد أن هناك ما يحمل جانبا آخر سواء فى المبنى ككل أو فى أجزاء منه هذا ما قررنا البحث عنه أنا وزميلتى العزيزة فى إحدى سنوات تدريسى لمقرر النقد المعمارى. وضعنا إطارا نظريا يركز على «الإمكانات» أو بذور العمارة الجيدة وبحثت الطالبات والطلبة كثيرا. وجدنا بعض البذور هنا أو هناك وربما فاتنا البعض ولكن الحصيلة، وخاصة مع الدراسة المتفحصة والتساؤل عن الملاءمة والمغزى والمعنى ووضعها فى سياقها الاجتماعى والاقتصادى، لم تكن كما كنا نتصور حين بدأنا وظهر لنا بوضوح إشكالية ملموسة فى المبانى التى درسناها. وأردنا دائما نقاشا علنيا وجادا عن المغزى والمعنى والعواقب ومسئولية المؤسسات كالجامعة والنقابة والجمعية بالإضافة للأفراد طبعا ولا يزال ذلك تحديا كبيرا ليس للنقاش المعمارى فقط ولكن لبقية قضيانا التى هى بحاجة لمواجهات جادة مبنية على المعلومات والدراسات ولا تضيق بالنغمات المتصاعدة من هنا أو هناك حتى وإن تعددت لأن نتيجة هذا النقاش هى بالأكيد لمصلحة الجميع.
ربما ضيعنا فرصة التعلم الذى يتجاوز التقليد من المعمارى الكبير حسن فتحى. لا أستطيع أن أنسى صوته فى الثمانينيات فى برنامج شاهد على العصر وهو يقول بصوته المتحشرج الذى يكاد يبكى «أمى مريضة (يقصد مصر) وأنا عندى الدواء» ويتأسف أو يتحسر لعدم قدرته على التدخل والعلاج. وربما ضيعنا أيضا فرصة اختيار المشروع الأفضل للمتحف المصرى الكبير الذى كان لى حظ للاستماع إلى الفائز الثالث فى مشروع المتحف المصرى الكبير وأدركت بعدها كم خسرنا فى مصر بإعلان الفائز الأول الصينى الأيرلندى. وكلما مررت بجوار المبنى وهو يظهر على وجه الأرض تأكد إحساسى. على عكس المشروع المنفذ، حيث بنى المعمارى الإيطالى الفائز بالجائزة الثالثة فكرة مشروعه على مبنى يكاد يكون غير مرئى من فوق هضبة الهرم بينما هو ظاهر بوضوح من مستوى الشارع. كان فى مشروعه محاولة متفردة وذكية لكى يقترب من عمق الأفكار وجوهر الفن المصرى القديم (وليس بتقليده) ويقترب مشروعه المقترح من حيث التفرد والجودة من تمثال نهضة مصر للفنان العبقرى محمود مختار.
تطرح تلك الفرص الضائعة والكثير غيرها تساؤلا حقيقيا عن دور وضرورة العمارة اليوم فى مصر والذى أرى أن أحد أهم إشكالياتها ليس فى المهارات أو جودة التنفيذ أو نقص التمويل ولكنها مشكلة تمس جوهر هذا النشاط الإنسانى والذى أعتقد أنه بحاجة لإعادة تفكير وتوجيه وربما يمثل انتشار جائحة كوفيد 19 وتأثيرها واسع النطاق لدينا وحولنا فرصة للتعامل الجاد وليس فقط لإطلاق أسئلة ولكن محاولة الإجابة التى تستلزم قدرا كبيرا من الخيال وربما أمكن لذلك أن يتحول إلى رؤية تتبنى الحياة بما فيها من طبيعة وكائنات وبشر.
***
وضع العمل المعمارى فى سياقه الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والبيئى أصبح ضرورة ليس فقط لننتج أشكالا تسر الناظرين (أو نظن ذلك) خاصة فى البلاد التى تعانى مثل مصر مراجعة عميقة للعمارة فى مصر وأهدافها ووسائلها وتعليمها. هذه المراجعة لـ «مهمة» العمارة الأساسية تحتاج أن تتوجه أساسا لما يمكن أن يسهم فى إنقاذ حياة الناس. حاول أن تطيل النظر فى ما حولك من مبانٍ وأن تتأمل فى حالها. ستجد أن غالبيتها تفتقد التهوية الطبيعية الجيدة تلك التى تمكن من بداخلها أن يتنفس هواء غير فاسد واسأل نفسك كم من الفضاءات والإضاءة والألوان والملمس فى تلك المبانى التى نمارس فيها حياتنا يدعم ما نقوم به من أنشطة وأعمال أو قد تنقذنا (أو عكس ذلك) فى حالات الشدة الواقعة أو المحتملة وهل هى تقوم بذلك بالصورة التى تستجيب لمتطلبات أرواحنا وأنفسنا الأخرى.