تعليم الهندسة فى مصر.. دلالات البدايات ومسئوليات المستقبل - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الأربعاء 19 فبراير 2025 12:39 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

تعليم الهندسة فى مصر.. دلالات البدايات ومسئوليات المستقبل

نشر فى : السبت 15 فبراير 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 15 فبراير 2025 - 6:30 م

الثورة الصناعية (التى بدأت فى أواخر القرن الثامن عشر واستمرت حتى القرن التاسع عشر) كان لها تأثير كبير على نشأة وتطور التعليم الهندسى الحديث. هذه الثورة غيرت المجتمعات والاقتصادات بشكل جذرى، حيث أدت إلى ظهور آلات جديدة، ومصانع، وبنية تحتية معقدة مثل السكك الحديدية والجسور والموانئ. هذه التطورات تطلبت وجود مهندسين مؤهلين لتصميم وتنفيذ وصيانة هذه الأنظمة، مما أدى إلى زيادة الطلب على التعليم الهندسى الذى بدأ يتحول من نظام يعتمد بشكل كبير على التدريب العملى والتلمذة الصناعية إلى تأسيس مدارس وجامعات متخصصة فى الهندسة، مثل: المدرسة المركزية للفنون والصناعات فى فرنسا (1829). معهد زيورخ الفيدرالى للتكنولوجيا فى سويسرا (1855). معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فى الولايات المتحدة (1861)، وأصبحت الهندسة تخصصا أكاديميا معترفا به فى الجامعات، مما أدى إلى زيادة مكانة المهندسين فى المجتمع.
‎لم تبتعد مصر عن هذه التأثيرات الكبرى للثورة الصناعية فأنشأ محمد على العديد من المصانع فى القاهرة وأنحاء مصر والتى تطلبت مبانى معقدة وتشغيل معدات جديدة، كما بدأ فى إنشاء شبكة الترع والقنوات لتحسين الرى وما صاحبها من كبارى معدنية، بدأ أيضا فى إنشاء القناطر الخيرية وتطلبت تلك المشروعات وجود العديد من المهندسين من المصريين بالإضافة لمن استقدمهم من الخارج. فأنشأت المهندسخانة فى حوش السراية بالقلعة عام ١٨١٦ وكانت المدرسة محلا لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، وأحضر لهم الآلات الخاصة بالقياس. بدأت المدرسة بحوالى ثمانين من أولاد البلد وكان الهدف تخريج المتخصصين من الفنيين للعمل فى المشروعات المدنية والعسكرية.
‎ذكر الجبرتى أن أحد أسباب تأسيس المهندسخانة إعجاب محمد على بآلة لضرب الأرز وتبييضه، اخترعها المصرى حسين عجوة، لأن ذلك كان بمثابة برهان عملى أن فى أولاد مصر من نجابة وقابلية للمعرفة لكننا نعرف أنه بعد انهيار إمبراطورية نابليون فى عام ١٨١٥ توجه العديد من الضباط والمهندسين من الجيوش الفرنسية إلى مصر وربما كان لهؤلاء دور كبير فى إنشاء المهندسخانة.
‎قام حريق كبير فى القلعة فى عام ١٨٢٨ ربما أدى لتدمير المدرسة وانتقلت بعدها لبولاق فى عام ١٨٢٩ (تذكر هيئة الأرصاد المصرية أن إنشاء أول مرصد لها كان فى المهندسخانة عام ١٨٢٩). وأغلقت مدرسة بولاق مع غيرها من المدارس فى مطلع عهد سعيد باشا عام ١٨٥٤ (مع إغلاق مدارس أخرى غالبا لتوفير النفقات) ثم أعيد افتتاح مدرسة لهندسة الرى بالقناطر الخيرية عام ١٨٥٨ وأخرى للعمارة بالقلعة ولم تستمر تلك المدرستان إلا ثلاث سنوات ثم أغلقت مرة أخرى فى عام ١٨٦١ نظرا لاشتداد الأزمة المالية التى كانت تمر بمصر بسبب الإنفاق على المشروعات الكبرى، ومنها قناة السويس فى ذلك الحين، وذلك لتوفير النفقات على ما لم يكن ذا أولوية فى ذلك الوقت، وذلك فى أواخر عهد الخديوى سعيد باشا.
• • •
‎فى عام ١٨٦٦ افتتحت مدرسة للرى والعمارة فى قصر الحصوة بالعباسية (التى كان اسمهما الأصلى الحصوة) كان قد بناه الخديوى عباس حلمى الأول كأحد البدايات الأولى لتعمير حى العباسية (والذى أقيم فى مكانه لاحقا سراى الزعفران). ثم انتقلت فى العام التالى إلى درب الجماميز عام ١٨٦٧(غالبا لبناء قصر سراى الزعفران فى نفس مكان قصر الحصوة) وهذا العام هو نفسه الذى زار فيه الخديوى إسماعيل باريس لحضور المعرض الدولى والذى شيد جناح مصر فيه على شكل جزء من القاهرة التاريخية.
‎اتخذت المدرسة من سراى مصطفى فاضل باشا - أخو الخديوى الأكبر - مقرا لها. فى هذا الدرب أيضا أنشئت لاحقا مدرسة الفنون حيث تخرج المثال الكبير محمود مختار. وفى عام ١٩٠٢ انتقلت مؤقتا إلى دار مدرسة الزراعة بالجيزة (التى ألحقت بسراى الجيزة قبل أن تتحول إلى حديقة للحيوان) ثم نقلت إلى مقرها الحالى بدءا من عام ١٩٠٥ .
‎فى عام ١٩٢٥ وعندما أصبحت جامعة القاهرة جامعة حكومية ضمت إليها كلية الطب والعلوم، وجاورت مدرسة الهندسة الملكية جامعة القاهرة حوالى ستة أعوام قبل أن تنضم رسميا للجامعة كإحدى كلياتها فى عام ١٩٣٥ وقد شهد هذا العام أحد أبرز الانتفاضات الشعبية الذى ساهم فيها طلاب الجامعة وانتهت تلك الانتفاضة بمعاهدة ١٩٣٦ التى وقعت فى سراى الزعفران.
• • •
‎التأثير الفرنسى كان كبيرا على التعليم الهندسى فى بداياته فكان العديد من مدرسى المهندسخانة من خريجى البوليتكنيك فى باريس سواء من الفرنسيين أو الدارسين المصريين المبتعثين إلى فرنسا. ولكن مع الاحتلال البريطانى وتأثير كرومر على التعليم تم إصدار لائحة للمهندسخانة تتضمن فرض رسوم للدراسة مما حد من الالتحاق بها كما تم استبدال المدرسين الفرنسيين بآخرين بريطانيين. بعد الحرب العالمية الثانية تم إنشاء نقابة المهندسين ولكنها لم تقم بالدور المهنى المتوقع منها وإن حققت بعض المكاسب الاجتماعية لأعضائها.
‎تعاظم دور المهندسين بعد ثورة ١٩٥٢ حيث تطلبت طموحات قادتها للتصنيع ومضاعفة الإنتاج الزراعى مضاعفة خريجى كليات الهندسة حوالى أربعة أضعاف من أوائل الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات، وأصبح للمهندس وضع متميز فى المجتمع. ومع فترة الانفتاح فى السبعينيات ساهم برنامج منح السلام الأمريكية فى جعل الولايات المتحدة إحدى الوجهات الرئيسية لدراسة الدكتوراه لخريجى الكلية وبدأت مرحلة كبرى للتأثير الأمريكى شبهها البعض بتأثير كتاب الحملة الفرنسية. شهدت تلك الفترة بداية المشروعات العمرانية الكبرى وخاصة المدن الجديدة على امتداد جغرافية مصر.
‎بدايات المهندسخانة توضح الروابط الوثيقة لها بالمؤسسة العسكرية، كما أن هناك ارتباطا وثيقا بالمشروعات الكبرى مثل القناطر الخيرية وتعمير القاهرة الحديثة وغيرها من المشروعات فى مختلف أنحاء مصر. كما يوضح تداخل الهندسة وتجاورها مع العديد من العلوم والفنون ومصادر المعرفة دورها المحورى فى تطور مصر الحديثة. وبينما أوجد التعليم المدنى والهندسى بصفة خاصة آلية علمية للترقى فى المجتمع تشير الإغلاقات المتكررة خاصة فى عهد الخديوى محمد سعيد إلى نظرة الشك من بعض الحكام تجاه توفير التعليم العالى المتخصص للمصريين وهو ما تكرر من كرومر فى معارضته لإنشاء الجامعة الأهلية فى عام ١٩٠٦. كما نعرف أن اهتمام عبد الناصر بتأسيس قدرات ذاتية لمصر (حتى وإن لم تكن هناك خطة محكمة) هو ما أدى لوضع مهنة الهندسة فى الصورة المرموقة التى كانت عليها لفترة طويلة.
• • •
‎تشهد كلية الهندسة بجامعة القاهرة -الوريثة الرئيسية لهذا التاريخ الكبير- تغيرات عديدة منذ أكثر من عقد من الزمن حيث أدخلت منظومة البرامج المعتمدة وتمت إضافة العديد من البرامج المتقدمة والمتخصصة المتعلقة بمنظومة المياه المستدامة والطاقة المتجددة وغيرهما. ولكن هل تتبع إضافة هذه البرامج فقط نزعة لمجاراة ما يحدث فى الكليات المماثلة فى جامعات أخرى خارج مصر أم أن هناك خطة أو رؤية أكبر لهذا التوسع؟ لا شك أن هناك حاجة لمناقشة توجهات التعليم الهندسى ليس فى جامعة القاهرة وحدها وأن هذا النقاش الذى أتمنى أن يكون عاما وجادا من المهم أن يتأمل فى البدايات ويفكر فى التحديات الحالية والمستقبلية.
‎تشير بدايات الثورة الصناعية إلى كون الهندسة والتكنولوجيا مفهومين مرتبطين ولكنهما مختلفان، فالهندسة تعتمد على المبادئ العلمية وتركز على التصميم لإنشاء حلول مبتكرة أو عمليات جديدة، أما التكنولوجيا فهى تركز على استخدام الأدوات والآلات والأنظمة المتاحة لأداء مهام محددة وتحسين الكفاءة والإنتاجية.
‎التكنولوجيا يمكن النظر إليها كوسيلة لتطبيق الحلول الهندسية. وارتباط الهندسة باستخدام التكنولوجيا الآخذة فى التطور باستمرار والتى بالرغم من الفوائد المتعددة لها على حياة البشر إلا أننا أيضا نعرف أن جذور أزمة التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى مرتبطة بالتوسع فى استخدام الطاقة الأحفورية التى تطلبتها التقنيات الجديدة فى مختلف المجالات. وكما يتم إعادة النظر الآن فى مصادر الطاقة من خلال سعى حثيث للتحول لطاقة متجددة لإنقاذ كوكب الأرض من مصير خطير للغاية، فمن المهم تبنى الأطر التقنية والفلسفية المناسبة فى التعليم الهندسى. وتهدف هذه الأطر إلى تطوير حلول هندسية مبتكرة تعتمد ليس فقط على الطاقة المتجددة ولكنها أيضا على إنقاذ المنظومات الإيكولوجية، واستخدام تقنيات تعتمد على الطبيعة بصورة رئيسية لتوفير أساليب حياة كريمة للناس فى مختلف الأماكن. ولأن الاستدامة هى الإطار الأوسع لذلك فهناك حاجة أيضا إلى التركيز على الروابط بين الهندسة والأبعاد الاجتماعية. مستقبل الهندسة يتحرك من المفهوم الذى يركز على كونها فلسفيا غير سياسية وغير تاريخية إلى مدخل أكثر إنسانية.

التعليقات