بينما لم تتجرع الإنسانية طوال تاريخها مرارة الاستخدام الفعلى المأساوى للسلاح النووى سوى مرة وحيدة، حتى الآن على الأقل، أقدمت خلالها الولايات المتحدة على قصف مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين بالقنابل النووية فى أغسطس من عام 1945، بقى العالم أسيرا لسلسلة من المغامرات والمناورات النووية التى وضعته غير مرة على حافة الهاوية، ففى الخامس من نوفمبر 1956، وجهت موسكو لكل من لندن وباريس وتل أبيب، إنذارها الشهيرالمعروف بـ«إنذار بولجانين»، الذى طوى تهديدات مبطنة باستخدام السلاح النووى، ما لم يتوقف العدوان الثلاثى الغاشم ضد مصر، وعلى وقع ما عرف بأزمة الصواريخ الكوبية فى أكتوبر 1962، وقف العالم على أطراف أصابعه ترقبا لمواجهة نووية محدقة بعدما وضعت واشنطن وموسكو ترسانتاهما النووية على أهبة الاستعداد.
وفى أكتوبر 1973، اقتضت المشيئة الإلهية أن تغدو مصر مجددا مسرحا لأزمة كونية وضعت البشرية على شفا مواجهة نووية محققة، بعدما تدحرجت الأسلحة النووية الإسرائيلية والسوفياتية والأمريكية باتجاه وضع الجهوزية للاستخدام قبل أن تضع الحرب أوزارها، فبمقاربة دولية، ألقت الحرب الباردة المستعرة بين القوتين العظميين حينئذ بظلالها على الحرب العربية الإسرائلية الرابعة، لتلوح فى الأفق الدولى الملبد بالغيوم، وللمرة الثالثة على التوالى، نذر صدام نووى بين موسكو وواشنطن، فبعدما تم رفع السرية عنها أخيرا، أكدت وثائق جمعها وترجمها مركز ويلسون، قيام واشنطن يوم 24 أكتوبر 1973، وللمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، بإعلان «حالة الاستعداد الدفاعى 3» لقواتها المسلحة بما فيها قطاعات الأسلحة النووية، فى تحذير صارم لموسكو، التى أفادت تقارير استخباراتية بإرسالها سفنا حربية محملة بقوات وأسلحة نووية إلى مصر، إذ تم رصد إشعاعات منبعثة عن سفينة «مزدوريشنسك» السوفيتية، وهى فى طريقها إلى ميناء الإسكندرية.
وبينما كان الرئيس الأمريكى نيكسون غارقا فى «أزمة ووترجيت» وقتئذ، نصحه مستشاره للأمن القومى هنرى كيسنجر ووزير دفاعه جيمس شليسنجر، بالاستعداد لحرب نووية محتملة ضد موسكو عبر وضع القوات الأمريكية حول العالم فى حالة التأهب القصوى، توخيا لإجهاض أية مساعٍ سوفيتية لاستغلال حرب أكتوبر أو استثمار تداعيات الفضيحة على وضع نيكسون الداخلى، بغية تعزيز التمدد السوفياتى فى المياه الدافئة الشرق أوسطية، غير أن تدخل يورى أندروبوف، رئيس المخابرات السوفيتية «كيه. جى. بى» وقتها، والذى خلف بريجنيف لاحقا، وتحذيره الكريملين من مغبة خوض غمار مواجهة نووية دعما لحليف عربى غير موثوق به، على حد وصفه، حال دون وقوع المأساة، عبر تقويض المغامرة النووية الرابعة.
أما خامس المغامرات النووية، فقد تمظهرت فى ملمحين استراتيجيين: أولهما، تأثير السلاح النووى الإسرائيلى فى القرار المصرى بإطلاق عملية السادس من أكتوبر 1973، وثانيهما، حقيقة جنوح إسرائيل لاستخدام ذلك السلاح، الذى كان بحوزتها حينئذ، إن كان على نحو مباشر أو غير مباشر، بهدف تغيير مسار العمليات العسكرية لمصلحتها، أما عن الملمح الأول، فقد تجلى فى جنوح الدعاية الصهيونية، وقتذاك، للزعم بأن خوف المصريين من ترسانة إسرائيل النووية هو ما حملهم على اختزال هجومهم فى عمل عسكرى محدود، رغم نجاحهم المبهر فى تنفيذه، مثلما اضطرهم لاحقا إلى إبرام معاهدة سلام مع الإسرائيليين فى بضع سنين، بيد أن الحقائق التى كان اللثام يماط عنها تباعا قد دحضت تلك الادعاءات، فثمة شواهد عدة واعتبارات شتى تؤكد عجز استراتيجية الردع النووى الإسرائيلى عن التأثير فى القرار العربى بشن الحرب.
فبادئ ذى بدء، كانت إسرائيل تتبنى استراتيجية الغموض النووى القائمة على سياسة الردع بالشك، فلطالما حرص المسئولون الإسرائيليون وقتذاك على حرمان العرب من التيقن بشأن أنباء امتلاك الدولة العبرية لمثل هذه الأسلحة الفتاكة، فى محاولة للتشويش على التخطيط العسكرى العربى وإرباك متخذى القرارات الاستراتيجية فى دول المواجهة، وكان تفوق إسرائيل الكاسح على مستوى الأسلحة التقليدية كفيلا بردع العرب وإقناع المسئولين الإسرائيليين بعدم جدوى طمأنة العرب باعتراف رسمى بامتلاك قنابل نووية، تلافيا لأية ردات فعل دولية صادمة، الأمر الذى غذى شكوك العرب بشأن حقيقة امتلاك إسرائيل منظومة متكاملة من الأسلحة النووية، مثلما نال من صدقية التهديد النووى الإسرائيلى.
وفى إجابة قاطعة على سؤال طرحته عليه بهذا الصدد خلال لقاء خاص عام 2003، أكد لى الفريق سعد الدين الشاذلى، أحد أهم قادة حرب أكتوبر، أن الضغوط التى كان النظام المصرى يكابدها على الصعيدين المحلى والإقليمى، حينئذ، علاوة على حاجة السادات الملحة إلى مصادر جديدة راسخة لشرعيته المرتبكة، كانا كفيلين بدفعه نحو استعادة الأرض المغتصبة ومحو عار هزيمة 1967 من خلال عمل عسكرى محسوب، متجاهلا سردية السلاح النووى الإسرائيلى المزعوم، بكلمات أخرى، إن مبادئ وقيما غالية تهون فى سبيل الذود عنها أى فزاعة نووية هى التى دفعت السادات، ومن خلفه جموع المصريين والعرب، للمضى قدما فى قرار الحرب غير مكترثين بتهديد نووى ربما يكون سرابا، أو محض حرب دعائية نفسية لتقويض روحهم المعنوية، لاسيما وأن امتلاك إسرائيل أسلحة نووية، إن تأكد، لا يستتبع بالضرورة توفر النية أو الجهوزية لاستخدامها، كما لا يعنى القدرة على التحكم فى مداها التدميرى، أو التمكن من تطوير أسلحة نووية تكتيكية لا تطال آثارها التدميرية إسرائيل ذاتها عند استخدامها، الأمر الذى يجعل اندفاعها لتنفيذ «الخيار شمشون» باستخدام سلاحها النووى الاستراتيجى المفترض، ضربا من الجنون أو الانتحار.
وحال ثبوت امتلاكها منظومة تسليحية نووية قابلة للاستخدام الفعلى، تجابه إسرائيل عقبات شتى تكبل تهورها فى استخدامها بغير مسوغ استراتيجى حيوى، لعل أبرزها: عدم استعداد العالم لتقبل اندلاع كارثة نووية جديدة، خصوصا مع تورط الغرب فى تزويد إسرائيل بالتكنولوجيا والمعدات الخاصة بتصنيع وتجهيز مثل هذه المنظومة الشيطانية، ناهيك عن غياب المبرر الاستراتيجى القاهر والملح لاستخدام ذلك السلاح المدمر، مع إدراك كل من واشنطن وتل أبيب قيام مصر بعمل عسكرى محدود بغية تحرير جزء من أراضيها المحتلة لتحريك المياه الراكدة على الصعيد السياسى بإطلاق مفاوضات تفضى إلى إقرار السلام وإعادة الأراضى العربية المسلوبة، ذلك أن إمكانات مصر الاقتصادية وقدراتها العسكرية وقتذاك لم تكن تطيق تخطى ذلك الهدف، ما يشى بأن وجود الدولة العبرية أو حتى أمنها لم يكونا موضع تهديد حقيقى مباشر، ومن ثم تنتفى الحاجة إلى إخراج المارد النووى من القبو، خصوصا، بعدما تسنى للإسرائيليين، بفضل الدعم الغربى الهائل والمتواصل، استعادة توازنهم على الجبهة الشمالية التى كانت تفوق الجبهة الجنوبية خطرا بسبب قربها الجيواستراتيجى الشديد من العمق الإسرائيلى، فى وقت لم تفقد تل أبيب ثقتها فى دعم عسكرى واستخباراتى أمريكى عاجل ومكثف لوقف تقدم المصريين المتواصل على الجبهة الجنوبية وتغيير مجرى المعارك لمصلحة القوات الإسرائيلية المهزومة.
أما بخصوص لجوء إسرائيل للتلويح بالخيار النووى أثناء الحرب، فتجدر الإشارة بداية إلى أن للسلاح النووى استخدامات متعددة، أبرزها الاستخدام الفعلى المباشر لحسم الحروب مثلما جرى عام 1945، أو الاستخدام غير المباشر من خلال التهديد به لغرض الابتزاز الاستراتيجى، مثلما فعلت تل أبيب مع واشنطن عام 1973، حينما لوح الإسرائيليون باللجوء إلى الخيار النووى لمحو الهزيمة المخزية التى تلقوها خلال الأيام الأولى لحرب أكتوبر.فوفقا لمجلة «تايم»، هرع الإسرائيليون فى أعقاب عودة وزير دفاعهم موشى دايان منهارا من زيارته المفجعة للجبهة فى الثامن من أكتوبر،لنشرصواريخ وقاذفات محملة برؤوس نووية، قاموا بتوجيهها صوب مواقع القيادة والسيطرة بالقاهرة ودمشق. والثابت فى هذا الخصوص أن القادة الإسرائيليين صعقوا بأداء القوات العربية فى أيام الحرب الأولى، حتى إن بعضهم لم يستبعد وصول المصريين إلى ممرات سيناء، وهو الأمر الذى زلزل ثقة قادة إسرائيليين كثر فى قدرة قواتهم على امتصاص الهجوم العربى والرد عليه بآخر مضاد، خصوصا مع علو نبرة التبكيت والتوبيخ الأمريكيين لحلفائهم المتغطرسين فى تل أبيب جراء الخسائر الهائلة التى تكبدوها فى المعدات والأفراد.
وبعدما ارتج مكتب الرئيس نيكسون فى التاسع من اكتوبر،بقائمة المطالب التى من شأنها إعادة إسرائيل للحرب مجددا وإعانتها على شن هجوم مضاد بمساعدة أقمار التجسس الأمريكية، برأسه أطل الدور المشبوه والمثير لوزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر، الذى اتخذ منه الإسرائيليون مخلصا ونصيرا؛ حيث أخطرهم بنية نيكسون تركهم يتكبدون فادح الخسائر فى المعركة قبل مساعدتهم على تغيير مساراتها، توطئة لحملهم على الانخراط بمحادثات تسوية فيما بعد، إذ كانت إدارة نيكسون تؤمن بحاجة العرب الماسة إلى إنجاز عسكرى محدود لا يلحق ضررا بالغا بإسرائيل بقدر ما يوفر لهم متكئا للدخول فى مفاوضات سلام شبه متكافئة مع الإسرائيليين، الذين كانوا يعتنقون تصورا مغايرا يتشبث بتعزيز الردع الاستراتيجى الذى يجبر العرب على القبول بالتصور الإسرائيلى للتسوية، وذلك من خلال كسر إرادتهم والإجهاز على أية رغبة لديهم فى المقاومة أو الصمود بعد قهرهم بهزيمة عسكرية ساحقة تضطرهم إلى تحييد أو استبعاد الخيار العسكرى نهائيا فى التعاطى مع عدوهم اللدود.
وانطلاقا من ذلك التباين فى مقاربات إدارة الصراع العربى الإسرائيلى بين واشنطن وتل أبيب، انبرى الإسرائيليون فى اعتماد التدابير الكفيلة بثنى نيكسون عن نهجه، وهنالك علت مجددا أصوات المنادين بإخراج القتبلة من القبو، ولو على سبيل الابتزاز الاستراتيجى ،حتى لا تتحول إلى عبء اقتصادى واستراتيجى ربما يفقد فعاليته بمرور الزمن، وبعد تردد، وافقت رئيسة الوزراء فى حينها جولدا مائير على نشر صواريخ متوسطة المدى من طراز «أريحا» وقاذفات من طراز «فانتوم» مزودة جميعها برؤوس نووية موجهة نحو القاهرة ودمشق،عسى أن تلتقطها الأقمار الاصطناعية الأمريكية فتجزع إدارة نيكسون وتهرع إلى إغداق المساعدات العسكرية السخية للحليف المهزوم.
وقد كان، إذ لم تمض سويعات حتى دشنت واشنطن يوم 12 أكتوبر جسرها الجوى، الذى أتحف الإسرائيليين بأثمن وأحدث ما تحويه الترسانة العسكرية الأمريكية من أسلحة ومعدات وذخائر لا قبل لمسرح العمليات الشرق أوسطى بها، مجهضة بذلك مغامرة، أو بالأحرى مناورة تل أبيب النووية، ومعلنة، فى ذات الوقت، نجاح استراتيجية الابتزاز النووى الإسرائيلية التى كان لها بالغ الأثر فى تغيير مآلات الحرب وإعادة رسم ملامح الإقليم.