هذه ليست لحظة ضعف أو تصحيح قناعة أو تكفيرا عن ذنب، هى لحظة اجتهاد فى التحليل ومحاولة جديدة لتعميق الفهم. لم يُستجد شىء، على كل حال، يجعلنى أبدل موقفى من الرئيس دونالد ترامب. لم يستجد شىء يجعلنى أصدق ما يقوله وأطمئن إلى مستقبل بلدى فى ظل وجوده وأغير اقتناعى بأنه الرئيس الذى انحرف بأمريكا فلن تعود كما كانت.
***
لن أنتظر مع ملايين تنتظر مثلى وثيقة يصدرها المحقق روبرت موللر تؤكد وجود شبهة اتهام للرئيس دونالد ترامب بأنه أتى أعمالا تقع تحت طائلة مواد فى القانون الأمريكى تتعلق بخيانة الوطن. أظن، وأنا هنا لا أستبق الأحداث ولا أملك معلومات موثقة، أن أجهزة روسية ركزت جهودها على هذا الرجل قبل أن يعلن الحزب الجمهورى اختياره مرشحا عنه لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية. تابعت بالدقة الممكنة كل كلمة نطق بها كاشفا عن نواياه إن هو وصل إلى الحكم. قرأت الأجهزة الروسية مواقفه ودرستها واستمعت إلى آرائه وتحليلاته واستفسرت عن ميول واتجاهات أصدقائه ومستشاريه من صناع الرأى والفهم السياسى. فعلت، فيما أتصور، كل هذا وأكثر منه على امتداد سنوات قبل أن تضع تقديرها وتسجل توصياتها وترفعها إلى الرئيس فلاديمير بوتين.
فعلت من ناحيتى، بمعاونة مساعدين أكفاء، ما تصورت أن الأجهزة الروسية فعلته. ليس بالتفصيل ولا الدقة ولا الشمولية ولا اقتحام الخصوصية التى لا شك اتسم بها عمل الأجهزة الروسية ولكن بانتقائية توفر التغطية الأمثل لقدر مناسب من المعلومات المتاحة. جمعنا ثم قرأنا وحللنا وفى النهاية قررنا أننا لو كنا فى مكان المسئولين الروس لرفعنا توصية إلى الرئيس بوتين بأن نقدم لهذا المرشح كل ما نملك من قوى الدعم، مستترين وراء أحدث أساليب التدخل واختراق المجتمعات. كنا سنقول لرئيسنا فى الكرملين أن لن يدخل البيت الأبيض فى الأجل المنظور رئيس يخدم مصالح روسيا كما يمكن أن يخدمها بليونير عقارات من نيويورك كان يحلم بالمنصب ورشح نفسه وأدار حملة انتخاب مثيرة وفاز فيها. سنقول له أيضا إننا «لو كنا زرعنا عميلا لروسيا فى الولايات المتحدة، زرعناه طفلا ورعيناه مراهقا ومولنا مشاريعه عبر العالم عندما نضج وصار معروفا، لما انتهى مخلصا لمصالح ومؤمنا بأفكار وخطط هى نفسها المصالح والأفكار والخطط التى نعمل تحت قيادتكم الرشيدة من أجل تنفيذها اليوم فى الولايات المتحدة بل وفى العالم بأسره».
***
أثبت الرئيس ترامب أنه كمرشح ثم كرئيس أبدع فى شق الرأى العام الأمريكى، لا يوازيه فى هذا الشأن مرشح أو رئيس آخر، على الأقل حسب ما أذكر، وما أذكره كثير فأنا متابع عن بعد لانتخابات رئاسة أمريكية تمتد إلى عهد أيزنهاور وشاهد عن قرب على عدد لا بأس به. رأيناه فى أثناء الحملة يشعل كره النساء وغضب الأسيويين وخوف المسلمين ويثير الشك فى الأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية وأحفاد الهنود الحمر. كنا شهودا على مجتمع اكتملت لديه فجأة الظنون ليس فقط ضد هيلارى كلينتون ولكن أيضا ضد بقية المرشحين المنافسين بل وضد قيادات الحزب الجمهورى ورموز الطبقة السياسية وهو ما لم يفعله، أو يجرؤ على فعله مرشح سابق يزعم تمثيله مجتمع المحافظين الأمريكيين.
***
دأب ترامب كمرشح ورئيس على توجيه الانتقادات الحادة أحيانا والساخرة أو مشبعة بالإهانة إلى السياسيين الأوروبيين بل إلى معظم حلفائه. حتى الكنديين لم يسلموا من لسانه ولدغات تغريداته الصباحية. سمعت دبلوماسيين وأكاديميين أوروبيين يعترفون أنهم لم يشهدوا وضعا نفسيا لقادة الحلف الأطلسى والاتحاد الأوروبى كالوضع الذى تدنوا إليه منذ جاء الرئيس ترامب إلى الحكم. تسربت إلى اجتماعاتهم الشكوك فى قدرة الحلف الغربى على التصدى عمليا وأيديولوجيا للسياسات الخارجية للرئيس بوتين، وبخاصة فى دول الجوار الروسى وأوروبا الشرقية.
هناك ما يقترب من إجماع الخبراء حول رأى يزعم أن الحلف الغربى دخل مرحلة الأزمة الحقيقية فى مسيرة انحداره. أوروبا لم تشعر بانحسار دورها مثلما شعرت وهى تحت قيادة الرئيس ترامب. حتى الوحدة الأوروبية كفكرة ومؤسسات لم تسلم من حملة الكره والاستخفاف التى شنها ضد أوروبا واهتمامها بالديمقراطية وبالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومؤتمرات المناخ وحرية التجارة. كانت لحظة اندهاش حين رأينا الرئيسين الروسى والأمريكى يشجعان كل على حدة قادة الشعبوية الأوروبية الجديدة على الفوز فى الانتخابات البرلمانية. جاء هذا الفوز فى معظم الحالات على حساب الأحزاب التى قام عليها النظام الديمقراطى والاستقرار السياسى الأوروبى.
***
وعد فى وقت مبكر بالخروج من سوريا، ومن الشرق الأوسط كله وأفغانستان. استثنى إيران لالتزامات عقدها مع شركاء يهود فى مهنة العقارات وأصهار يهود فى العائلة وقيادات مخلصة لإسرائيل فى الطائفة الإنجيلية التى سوف تصير قاعدة له فى حكم البلاد. لم ينسق مع حلفاء أمريكا حول من يسد الفراغ فى كل ساحة تخرج منها أمريكا. انتهى الأمر تخبطا رهيبا فى السياسة الخارجية فى الشرق الأوسط، كان للتخبط أثره فى معنويات الحكم فى معظم عواصم العرب وحتى فى إسرائيل. فجأة وجدت إسرائيل نفسها فى موقع مسئولية إقليمية لم يحلم به الصهاينة العظام وعلى خط تعامل مباشر مع قوى عظمى ودول إقليمية لها مصالح فى الإقليم بعضها متصادم جوهريا مع مصالح الدولة اليهودية.
أغضب المؤسسة العسكرية ونجح فى مد شرخ معها ظل يتمدد ويتعمق مع مرور الوقت ومع تبدل جنرالات على منصب رئاسة لجنة الأمن القومى فى البيت الأبيض. كلهم وغيرهم فى مؤسسات صنع السياسة الخارجية أثبتوا، حسب رأيه، أنهم ليسوا على مستوى فهمه الاستراتيجى.
صحيح أنه لم يخطئ مع المؤسسة العسكرية أخطاء توازى أخطاءه الرهيبة التى ارتكبها فى حق مؤسسة الاستخبارات بأفرعها الثلاثة الرئيسة وهى مكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة الاستخبارات وجهاز الأمن القومى. زرع الخلافات فيها وأهانها أمام الشعب الأمريكى، والأدهى أنه أصاب كرامتها وسمعتها بين عديد أجهزة الاستخبارات فى العالم وبخاصة فى الحلف الغربى وروسيا والصين. لم يحدث على امتداد العلاقة الروسية الأمريكية أن اتهم رئيس أمريكى أجهزته الاستخباراتية بالسذاجة والجهل فيصيبها وهى أحد أهم أذرعته فى سباق أمريكا مع روسيا والآن مع الصين بالضرر الكبير فى معنوياتها وفاعليتها.
***
أتحدث كثيرا مع خبراء فى تحليل تطورات العلاقات بين الدول وبخاصة ما تعلق منها بالشرق الأوسط. لا أبالغ وأنا أكشف عن انطباع هام وسائد لدى عدد كبير منهم. يعتقدون أن الرئيس ترامب أساء إلى حلفاء أمريكا من العرب إساءات لا تغتفر. أساءت أمريكا فى السابق ولكن ليس كإساءات ترامب. يعتقدون أيضا أن أمريكا تحت رئاسة ترامب، وهى تتصرف كطفل يلهو فى المنطقة كما يلهو طفل بقطع شطرنج فوق لوحته، لن تخلف وراءها للعرب سوى التزامات هشة لن تتحمل قسوة القائم كما القادم من عواصف وأنواء، فى مقدمتها تبعات وتداعيات الانفراد الروسى بالهيمنة على الإقليم ومنها أيضا غياب مرجعية عربية تتناسب ونوع التحولات فى الإقليم وفى العالم الخارجى.
***
أعود إلى حيث بدأت. لو أننى فى مكان فلاديمير بوتين رئيسا للاتحاد الروسى أقرأ تقدير موقف أعدته أجهزة التحليل والتقدير فى الكرملين عن شخصية رجل العقارات المرشح لرئاسة الجمهورية الأمريكية وتوقعاتها بشأن أسلوب إدارته دفة الحكم والسياسة والاقتصاد، لكان قرارى ادعموه بكل الوسائل الممكنة حتى المحظور منها. ولو عادوا اليوم بتقرير جديد عن إنجازاتهم خلال عامين وأكثر لطلبت منهم ومن جميع أجهزة العمل الدبلوماسى والعسكرى الاستمرار فى دعمه ضد خصومه فى الداخل كما فى الخارج. لقد حقق هذا الرجل لنا، دون طلب منا أو تكليف، إنجازات فى سياساته الخارجية والداخلية ما لم نحلم به منذ أيام لينين وستالين. أثار فى صفوف الأمريكيين أحقادا جديدة ضد بعضهم البعض وأنعش الكراهيات القديمة. أعاد إلى شعوب الجوار اللاتينية مشاعر تمردها ضد أساليب الجار الأبيض المهيمن والمستغل. أهان حلفاء أمريكا الأوروبيين وأضعف حلف الأطلسى عدو روسيا اللدود وشجع على تفكيك الاتحاد الأوروبى وعزز الخلافات بين أعضائه. استهلك أرصدة هائلة لإشعال صراع مبكر مع الصين وتحويل أنظار الصينيين بعيدا عن روسيا. تخلى لنا عن الشرق الأوسط بدون إطلاق رصاصة واحدة أو إثارة العقبات فى وجهنا ولم يتبق لنا إلا أن نساعده ليتخلى بالسرعة المناسبة عن أفغانستان ثم عن آسيا برمتها.
نعم، هذا الرجل لم يخن بلاده ولم يتواطأ مع روسيا.