(١)
التغيير السريع ليس بتغيير أصلا.. سمه طفرة فى الأداء.. سمه تأجج عاطفة.. لكنه لن يكون أبدا تحولا كاملا فى الفكر ومن ثم فى السلوك والمعاملة إلا لو صار عادة.. والعادة لن تُكتسب إلا بصبر المعلم قبل المتعلم.. وبرافق الداعية قبل المدعو.. وبمنهج محكم لا خبط عشواء.
قبل الثورة كنت أُتابع ظاهرة وطنت نفسى على تسميتها (الالتزام الحماسى).. وقتها لم أشأ أن أطلع أحدا على ما أضمرته فضلا عن المناقشة فى تفصيلاته، راجيا أن تخيب ظنونى وتغمر المصلحة المفسدة.. أو خوفا من وقوعى فى دائرة انتقاد متشائم مذموم.
(التدين الحماسى) أو (العاطفى) كان نسقا متكاملا من الالتزام الظاهرى غير المرتكز على منهج علمى وروحى يستمد منه صاحبه القوة كلما خارت عزيمته أمام بهرج الدنيا.. (التدين العاطفى) كان ردة فعل لإنسان داعب (شريط الكاسيت) داعى (التوبة) فى أعمق أعماق قلبه.. قصة وعظية مؤثرة ألقاها خطيب مصقع، أو تلاوة عذبة يترنم بها إمام خاشع، كلها قد تثمر خيرا حقيقيا فى قلوب لم تعدم الحياة بالكلية حتى وإن بدت للناس ميتة متحللة.. (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها).
وطبعا لست أشير بالذم إلى ذلك كله.. لكنى أتناول تحديدا المرحلة التى تلى ردة الفعل تلك.. لو اعتمد صاحبها على ذلكم (الرصيد العاطفى) الذى لأجله بكى فى المسجد يوم أن عزم على التوبة.. أو خجل من معصيته يوم أن أنصت إلى حديث الشيخ السلس البليغ.. لو اعتمد عليه بعد ذلك فى أوقات الفتن والملمات ليحدد إلى أى طريق يتوجه عندها تتجلى الآثار السلبية.
•••
(٢)
كم رأينا من شبابٍ و كهول التزموا فى المجمل بـ(عاطفة) تجاه شعائر الإسلام.. حُببت إليهم مظاهر العفة والتسنن.. أطلقوا لحاهم (تقليدا) لمجموعات (متدينة) مماثلة لهم فى السن أو فى الطبقة الاجتماعية أو جاورتهم فى منطقة سكن أو زاملتهم فى دراسة أو عمل.. بعضم أيضا ارتدى (الجلباب) وآخرون زادوا عليه (الغترة الخليجية) تقليدا لداعية أحبوه.
هذه (العاطفة) جزء لا ينفصل عن معانى الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة.. لكن أحد الفوارق الرئيسية التى تميز أصحاب الرسالة الدعوية عن غيرهم من أتباع الأفكار المنحرفة هو التوسط بين التضخيم والتقليل من شأن تلك العاطفة.
لا أقول إن تقصير عامة المجتمع فى (الالتزام الظاهرى) يخرجهم من دائرة الإسلام مثلا ولا أقبل فى الوقت ذاته من ينكر على الملتحى أو المنتقبة ساخرا أو مقللا من قيمة طاعتهما.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى اعتقاد (الملتحى) أو (المنتقبة) أنهما قد حققا التزاما بالشرع وتأسيا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ونُصرة للحق بمجرد إطلاق اللحية أو ارتداء النقاب.. المشكلة تكمن فى من اعتقد أن هذا هو غاية ما هنالك حتى لو سترت اللحية أو غطى النقاب على انحرافات سلوكية وربما عقدية بالجملة.
ليس كل من التحى صار طالب علمٍ ولا كل من انتقبت أصبحت داعية.. وليس واقعيا أن نتخيل وصول كل ملتزم بالشرع فى الجملة إلى درجة واحدة من التدين والانضباط السلوكى.