ركّز انفجار مرفأ بيروت الأنظار من جديد نحو البحر، والبحر الأبيض المتوسّط بشكلٍ خاصّ. ذلك فى الوقت الذى تأجّج فيه الصراع بين تركيا واليونان حول التنقيب عن النفط والغاز فى عرض هذا البحر، بينما تُبرَم اتفاقيات خلافيّة بين بعض الدول ذات الشواطئ المتاخمة حول تقاسم المصالح والموارد الكامنة فى أعماقه بالتزامن مع نزاعات قائمة حول ترسيم الحدود البحريّة.
ليست قضيّة البحر المتوسط قضيّة موارد طبيعيّة وحسب، وإنّما، كما كان دوما فى تاريخه، قضيّة تجارة وتبادل وفى نهاية المطاف.. قضيّة الحضارة والحضارات التى يؤسّس لها هذا التبادل. والتجارة اليوم هى تبادل للبضائع وخطوط لشبكات المعلومات فيما يعيد إلى الأذهان سياق مسار طريق حرير جديد من الصين نحو أوروبا. أخذت الدول النافذة مواقعها على المدخل الجنوبيّ لهذا البحر، من بحر العرب إلى باب المندب إلى البحر الأحمر إلى قناة السويس، عبر حروب السودان وأريتريا واليمن وغيرها.. إلاّ أنّ التموضع فى المتوسّط، وخاصّة فى شرقه، ما زال يشكّل أرَقا استراتيجيّا ومجالا لصراعات لم تتوضّح مآلاتها بعد.
فمن هذا البحر المتوسّط؟ أطلق عليه المصريّون القدماء اسم البحر الأخضر، وسمّته التوراة بحر الفلسطينيين. فى حين، أشار الإغريق إلى أنّه بحر ما قبل أعمدة هرقل (جبل طارق)، وأنّه فى البدء كان بحر الفينيقيين. وعندما حلّت حضارة الرومان، أدخلوا كلّ شعوب الأراضى المحيطة به ضمن حضارتهم، وأطلقوا عليه تسمية «بحرنا نحن» Mare Nostrum أى البحر الداخليّ. الحضارة العربيّة الإسلاميّة دعته بـ«البحر الشاميّ» بفضل أساطيلها من الأمويّين حتّى الفاطميين والمماليك، أو، بعد هزيمة هذه الأساطيل والحروب الصليبيّة، بحر الروم. ثمّ سمّاه الأتراك العثمانيّون البحر الأبيض Ak deniz، على أساس أنّ اللون الأبيض يرمز للغرب. هكذا كى تنتهى تسميته غربا فى القرن التاسع عشر بالبحر المتوسّط Méditerranée، أى بحر «وسط العوالم»، ثمّ ليتمّ التوافق على تسميته عربيّا بالبحر الأبيض المتوسِّط.
***
كان هذا البحر فعليّا.. وسطيّا. لقد أسّس منذ الأزمنة الغابرة ليس فقط للتبادل التجارى وإنّما أيضا للتبادل والتفاعل الحضاريّ؛ إذ قبل انتشار الديانات التوحيديّة جميعها عبر سواحله، انتشرت أيضا عبادات الآلهة القديمة، خاصّة آلهة ما بين النهرين والآراميّة، وحيث امتزجت من خلاله. رغم أنّ الادعاء الموروث أوروبيّا أنّه أسّس ــ فقط ــ لما يسمّى «الحضارة الغربيّة»، كون أنّ شعوب جنوبه لا تعرف خوض عبابه خلافا لوقائع التاريخ. وانتهى الأمر بهذا الادعاء عن الهويّة الأوروبيّة بإرساء تعاون أورو ـ متوسطيّ بين القارة وحوض المتوسّط، وليس بين الضفتين. هذا علما أنّ أوروبا هى أميرة فينيقيّة كما تقول الأساطير.
انطلاقا من هذا التاريخ، يُمكن القول إنّ البحر المتوسّط يعيش اليوم أزمة وجوديّة. أزمة هويّة. لقد هرم وأصبح بيئيّا.. فى غايّة التلوّث. وأضحت مآسى غرق قوارب الهجرة بين شواطئه تلفت انتباه البشر أكثر من ربوع الاستجمام على تلك الشواطئ الجميلة. فسكّان ضفّته الشرقيّة والجنوبيّة، وما وراءهما، يعيشون مآسى تحوّلات كبرى لم ولن تعرف نهايتها قريبا. ولا أمل إذا لهم سوى الهجرة وخوض مخاطر قوارب المهرّبين ومافيّاتهم. أمّا سكّان ضفّته الشماليّة فهم خائفون من هذا الزحف البشريّ نحوهم، وأن تضيع بفعل ذلك ما يظنّون أنّه هويّتهم وحدهم، فى ظلّ أزمات هم أيضا يعيشونها.. وإن أقلّ حدّة.
ضمن هذا كلّه ترتقى مكانة دولٍ على ضفافه وتنهار مكانة أخرى. فهناك إسرائيل التى شقّت معبرا تفضيليّا لها مع أوروبا، فى حين تناقض أسسها ما تتطلّع إليه شعوب جوارها من مدنيّة المواطنة. ها هى المرافئ الإسرائيليّة تتخطّى بكثير دور تلك التى تحيط بها، وحتّى ما كان يتمّ الحلم به فى أوائل القرن العشرين. وهناك تركيا التى أضحت قُطبا صناعيّا على الصعيد العالميّ بالتوازى مع توسّع تجارتها وهيمنتها. ما زالت البضائع التركيّة تورّد لدول الخليج، مارّة عبر مرفأ حيفا نحو الأردن ثمّ الطريق البريّ، عوضا عن مرفأ بيروت وسوريا. وها هى تركيا تؤّسس لقاعدة تجاريّة كبيرة لها فى مصراتة فى ليبيا. وها هما روسيا وإيران، البلدان غير المتوسطيّين، يؤسّسان لمنافذ على البحر المتوسّط عبر سوريا.
بالوقت نفسه، تتوقّف خطوط نقل النفط من العراق أو من الخليج نحو المتوسّط. وكذلك خطوط الغاز، بما فيها خطّ الغاز العربى الذى يربط مصر بالأردن بسوريا بلبنان. والذى كان يمكن أن يشكّل حلاًّ لأزمة الكهرباء فى لبنان وكذلك لأزمة الطاقة فى سوريا منذ استيلاء داعش على الموارد النفطية السوريّة. وحده خطّ الغاز المصري ــ الاسرائيليّ يعمل بنشاط ولكن بالاتجاه المعاكس لما كان مفروضا منه، أى لتغذية مصر وليس لتصريف فائضها. ولا تعاون نفطيًّا وغازيًّا بين الجزائر والمغرب رغم التطوّرات فى البلدين، فى حين تبقى جميع الخطوط عاملة نحو أوروبا بما فيها تلك الليبيّة رغم الحرب الأهليّة الشرسة فى هذا البلد.
***
وممّا يتمّ تداوله أنّ أحد أسباب الصراع على سوريا هو تنافسٌ إيرانيّ ــ تركيّ حول خطوط غاز نحو المتوسّط، أو أنّ مخزون الغاز الكامن فى المياه الإقليميّة السوريّة ضخمٌ بحيث يثير أطماعا متنوّعة. كما يتمّ الحديث عن أنّ اكتشافات النفط والغاز المتوقّعة فى مياه لبنان الإقليميّة ضخمة ويمكن أن تنقذ البلد من أزمته العميقة. والقول إنّ أكبر حقول الطاقة هى فى الجنوب حيث النزاع الحدوديّ مع ما يستثمره الإسرائيليّون. كما يتمّ الحديث عن أنّ موارد كردستان العراق وكذلك تلك الحاليّة والافتراضيّة لمناطق سيطرة الإدارة الذاتيّة تحتاج لمنفذ نحو البحر المتوسّط لتصريفها كى تستقلّ هذه الأطراف بالموارد المتاحة.
بالطبع كلّ هذه أسبابٌ وجيهة لصراعات كبرى. يكفى من أجل ذلك التذكّر بكيفيّة منع نقل النفط والغاز من بحر قزوين عبر تركيا لعقودٍ طويلة وكذلك التفكّر بالصراعات داخل أوروبا وبالعقوبات الأمريكيّة الحاليّة حول مشروع نوردستريم 2 بين روسيا وألمانيا.
بالتالى، يبدو واضحا أنّ دول شرق وجنوب المتوسّط قد دخلت مرحلةً جديدة، مختلفة جدّا عن صراعاتها فى النصف الأوّل من القرن العشرين. مرحلة تتميّز بصراعات، تشكّل البلدان العربيّة المتوسطيّة موضوعا لها وليست هى الفاعلة بها. ربّما لأنّها نسيت أو تناست نتيجة إرث الحقبة الاستعماريّة أنّها كانت تاريخيّا دولا وقوى.. بحريّة، تعيش وتتفاعل عبر المتوسّط.
للتذكير كتب محمد كرد على فى «خطط الشام» فى معرض عرضه للتاريخ البحريّ للعرب: «ومن الغريب أن أهل الساحل، ومنهم قسمٌ يفتخر بأنّه من نسل الفينيقيين سادة البحار، لم تتعلّق هممهم على كثرة ما بلغه الشامى من درجات الغنى والتمدّن فى مهاجره، أن ينشئوا لهم أسطولا تجاريا صغيرا على النحو الذى تفعل أضعف الشعوب لتغدو وتروح على الأقل بين سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود، يحملون عليها متاجرهم وينقلون قاصديهم وأبناءهم، ويعتمدون عليها فى نقل صادرات القطر ووارداته، على الصورة التى كانت لليونان قبل أن ينادوا باستقلال بلادهم منذ نحو مائة سنة.. ولا سبب لذلك إلاّ أن بعض أهل الساحل يفضّلون أن يعيشوا عبيدا على أن يعيشوا سادةً مستقلّين».