أصبح الذكاء الاصطناعى حاضرا بقوة فى ساحات العديد من المعارك العسكرية حول العالم، سواء فى مجال تحليل البيانات الاستخباراتية أم قصف الأهداف العسكرية عبر الطائرات من دون طيار أم القيام بمهام الاستطلاع عبر الروبوتات العسكرية، لكن فى حربها ضد حركة حماس وحزب الله اللبنانى وظفت إسرائيل الذكاء الاصطناعى بطريقة مختلفة.
فالمُعتاد أن يقوم البشر بتحديد الأهداف العسكرية التى سيتم استهدافها أو اغتيالها، ثم يقوم الذكاء الاصطناعى بتنفيذ المهمة، كأن تقوم «درون» مثلاً باغتيال أحد الأهداف التى حددتها لها القيادة العسكرية. أما فى حالة توسيع دائرة الأهداف العسكرية بصورة كبيرة؛ فإن العنصر البشرى قد يواجه صعوبة فى حصر وتحديد ومراجعة كافة هذه الأهداف يدويا، فضلاً عن ضيق الوقت الذى قد لا يكون فى صالح القوات المقاتلة.
ومع وضع إسرائيل تقريبا جميع عناصر حماس وحزب الله فى دائرة الاستهداف؛ فإنها اتبعت استراتيجية قائمة على المشاركة بين البشر والذكاء الاصطناعى، على أن يتولى فى هذه المرة الذكاء الاصطناعى مهمة تحديد الأهداف ومراجعتها وتعقبها، ويقوم البشر بمهمة التنفيذ عبر القصف بالطائرات.
• • •
فى عام 2021، صدر كتاب مهم للغاية بعنوان «فريق الإنسان والآلة: كيفية خلق التآزر بين الإنسان والذكاء الاصطناعى الذى سيحدث ثورة فى عالمنا» (The Human-Machine Team: How to Create Synergy Between Human and Artificial Intelligence That Will Revolutionize Our World)، ومؤلفه هو «العميد ى. س» (Brigadier General Y.S)، ويُعتقد أنه قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية النخبوية (8200)، ويتحدث فيه عن آلة ثورية قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة كبيرة، لتوليد الآلاف من الأهداف المُحتملة التى يمكن توجيه ضربات عسكرية لها بسرعة ودقة كبيرة للغاية، متجاوزة بذلك التحديات المفروضة على العنصر البشرى فيما يتعلق بتحديد الأهداف واتخاذ القرارات الحاسمة فى الحروب.
ولتحقيق هذه الاستراتيجية بفاعلية، أنشأت إسرائيل وحدة استخبارات عسكرية جديدة داخل مديرية الاستخبارات العسكرية فى عام 2019، تُسمى «وحدة الأهداف» مصنفة على أنها سرية، وأدت دورا كبيرا فى رد إسرائيل على هجوم حماس فى 7 أكتوبر 2023، من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى؛ إذ أسهمت فى تحديد الأهداف المطلوبة بسرعة أكبر وإرسال توصيات باستهدافها إلى القوات العسكرية عبر تطبيق ذكى يُعرف باسم «عمود النار» (Pillar of Fire) يستخدمه قادة العمليات العسكرية.
• • •
أشار بيان قصير على موقع الجيش الإسرائيلى فى 2 نوفمبر 2023، إلى استخدام نظام «جوسبل» فى الحرب على قطاع غزة لإنتاج الأهداف بسرعة كبيرة، وتتمثل الوظيفة الرئيسية لـ«جوسبل» فى تحديد الأهداف المُحتملة للضربات العسكرية بشكل آلى، خاصةً المبانى والهياكل التى يُحتمل أن تكون ذات استخدام عسكرى. وقد تم تصميمه لمساعدة الجيش الإسرائيلى على أتمتة عملية تحديد الأهداف واتخاذ القرار بشأنها؛ مما يقلل الحاجة إلى التدخل البشرى.
ويستخدم «جوسبل» عدة مؤشرات أو معالم لتحديد هذه المناطق، كأن تكون مبانى ذات تحصينات إضافية، أو دعامات خرسانية، أو تدخلها مجموعات كبيرة بصورة منتظمة، أو شهدت تغييرا فى الهياكل عند مقارنتها بصور قديمة. كما يعتمد «جوسبل» على التحليل الطيفى للصور متعددة الأطياف (Multispectral)؛ لتحديد أنواع المواد المستخدمة فى التحصينات، والتفريق بين التضاريس الطبيعية والبنى الاصطناعية، مثل: فتحات الأنفاق أو الخنادق المخفية تحت سطح الأرض، أو صور فتحتات أنفاق أرضية. كما يقوم أيضا بتحليل التحركات اللوجستية فى المواقع المُحتملة لتحديد النشاط العسكرى، مثل: نقل الأسلحة أو المعدات الثقيلة، والتى عادةً ما تُشير إلى تحضيرات لعمل عسكرى أو وجود منشأة عسكرية.
ويقوم نظام «جوسبل» بدمج البيانات الواردة من مصادر مختلفة، مثل: صور الأقمار الاصطناعية، والرادارات، والاستشعار الحرارى، بالإضافة إلى معلومات استخبارية أخرى مثل: التقارير الميدانية أو الاتصالات، بما يساعد فى النهاية على بناء صورة دقيقة لمواقع وأنشطة حماس.
• • •
أدى نظام «لاڨندر» دورا كبيرا فى بناء قاعدة أهداف بشرية لأشخاص ينتمون لحركة حماس، وأدى إلى اتساع دائرة القصف غير المسبوق للفلسطينيين، خاصةً خلال المراحل الأولى من الحرب الحالية. فقد تم تصميم هذا النظام لتحديد جميع العناصر المشتبه بها فى الأجنحة العسكرية لحماس والجهاد الإسلامى، بما فى ذلك ذوو الرتب الدنيا، كأهداف مباشرة للقصف.
ويتم تزويد النظام ببيانات حول عناصر حماس الحاليين، وتدريبه على هذه البيانات من خلال تحليل أنماط الأفراد وتصرفاتهم حتى يتعلم سماتهم العامة؛ بهدف القياس على أفراد آخرين مُحتملين. ويقوم النظام بعد ذلك بالبحث فى بيانات المراقبة المتعلقة تقريبا بكل فرد فى غزة، ويشمل ذلك الصور وجهات الاتصال الهاتفية وغيرها من البيانات لتقييم احتمالية أن يكون الشخص مسلحا، مثل: كونه فى مجموعة «واتساب» مع مسلح معروف، أو يقوم بتغيير الهاتف المحمول كل بضعة أشهر، أو تغيير العناوين بشكل متكرر؛ ومن ثم تصنف الفلسطينيين بناءً على مدى تشابههم مع المسلحين، والشخص الذى يتم العثور على ميزات تدينه يصبح هدفا للاغتيال، من دون أى تدخل بشرى تقريبا، حسبما يؤكد التحقيق الاستقصائى لمجلة (+972).
فإذا قرر «لاڨندر» أن فردا ما هو مسلح فى حماس؛ فإنه يصبح هدفا للقصف، دون الحاجة إلى التحقق بشكل مستقل من سبب اختيار النظام لتلك الأهداف أو فحص البيانات الاستخباراتية الأولية التى استند إليها. فعلى سبيل المثال، أوضحت المجلة بناءً على استشهادات من جنود عملوا على هذا النظام أن «لاڨندر» يخطئ أحيانا فى تحديد بعض الأفراد كأهداف لمجرد أن أنماط اتصالاتهم تتشابه مع أنماط اتصال عناصر حماس أو الجهاد الإسلامى، بما فى ذلك رجال الشرطة والعاملون فى الدفاع المدنى وأقارب المسلحين والمقيمون الذين يصادف أن لديهم اسما وكنية متطابقة مع اسم مسلح، أو أشخاص من غزة يستخدمون جهازا كان يخص عنصرا فى حماس. كما أن تدريب النظام بناءً على ملفاتهم الاتصالية جعل «لاڨندر» أكثر عُرضة لاختيار المدنيين عن طريق الخطأ عند تطبيق خوارزمياته على عموم السكان.
• • •
هذا هو النظام الثالث فى دائرة الاستهداف؛ إذ تم تصميم نظام «أين أبى؟» خصيصا لتتبع الأفراد المُستهدفين وتنفيذ عملية القصف عندما يدخلون منازل عائلاتهم، بدلاً من مهاجمتهم أثناء نشاط عسكرى؛ وذلك لأنه، من وجهة نظر استخباراتية تُعد احتمالية إصابة هؤلاء الأفراد فى منازلهم أعلى بكثير من المناطق العسكرية التى غالبا ما تحتوى على تحصينات، دون الأخذ فى الاعتبار أن هذا الاستهداف لعائلة بأكملها وليس لعنصر واحد من عناصر حماس؛ ومن ثم كان ذلك سببا آخر لزيادة حصيلة القتلى بين المدنيين.
فكل شخص فى غزة لديه منزل خاص يمكن ربطه به؛ مما جعل أنظمة المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلى قادرة بسهولة وبشكل آلى على ربط الأفراد بمنازل عائلاتهم. وقد تم تطوير برامج تقوم بتتبع آلاف من الأفراد فى وقت واحد وفى الوقت الفعلى لهم، وعند تحديد اللحظة التى يدخل فيها المستهدفون إلى منازلهم؛ فإنها ترسل تنبيها تلقائيا إلى ضابط الاستهداف، الذى يقوم بعد ذلك بقصف المنزل على كل من بداخله؛ لذا فقد أدى الجمع بين نظام «لاڨندر» ونظام «أين أبى؟»، إلى نتائج مميتة.
• • •
هذه التقنيات جعلت عملية القتل أكثر آلية وتدميرا، دون أى تمييز بين المدنى والعسكرى؛ إذ يتسلم الجندى قائمة أهداف أنشأها الحاسوب ولا يعرف بالضرورة على أى أساس تم وضعها، فهل فعلا توصيات هذه الآلة دقيقة أم بها درجة من درجات الخطأ؟ هل كل من تقوم بتحديدهم 100% من العناصر المطلوبة أم لديها درجات ثقة أقل، وتم التغاضى عنها رغبةً فى استهداف كل من يتعاطف مع حماس؟ وماذا عن مشكلة جودة البيانات التى تدربت عليها، أو تحيز الخوارزميات، أو الخطأ فى تقييم حدة الخطر؟
كل هذه الأخطاء واردة جدا عند التعامل مع النظم الذكية، وإذا كانت وظيفتها هى القتل؛ فإن ذلك يزيد من احتمالية إصابة أهداف خاطئة أو غير مطلوبة. ومع استخدام قوة تدميرية غير متناسبة مع حجم الهدف فى بعض الأحيان؛ فإن ذلك قادر على أن يُوقع عددا كبيرا جدا من القتلى غير المقصودين، فتصبح هذه الآلات عمياء بدلاً من كونها ذكية؛ هدفها التدمير الشامل وليس انتقاء الأهداف بدقة عالية؛ فكانت النتيجة أن تجاوز عدد القتلى حاجز الـ41 ألف فى غزة وحدها.
إيهاب خليفة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة