أم الشهيد من الصعيد.. قصة حقيقية - عادل سليمان - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 12:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

أم الشهيد من الصعيد.. قصة حقيقية

نشر فى : الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الإثنين 6 أكتوبر 2025 - 6:30 م

كعادة كل ليلة، وفى وقت السحر حين توشك ينابيع الفجر أن تنهمر، كانت تنهض وحيدة بعد أن غاب عنها من كان يوقظها، صوت الكروان ودعاؤه، الذى كانت تعتقد إلى حد اليقين أنه صوت ابنها الذى استُشهد فى نكسة 67. فقد واساها أحد علماء الدين بالقرية، من الذين يتصفون بالزهد والورع، قائلًا: «إن الشهداء فى حواصل الطير يغدون ويروحون بين الجنان»، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ.

فى وقت السحر كانت تناجى ربها أن يربط على قلبها ويثبت عقلها؛ لأن ابنها الشهيد كان الأقرب إلى قلبها، إذ كان يغمرها بالحب والحنان، والأقرب إلى عقلها لأنه كان الابن البارّ بمعنى الكلمة وحقها. ست سنوات غُيِّبَ ابنها الحبيب عنها، وكان يأتيها فى المنام فى ليالٍ متباعدة، ويسبق مجيئه صوت الكروان ودعاؤه، عندئذ تكون البشرى التى تتحقق فى وضح النهار فى اليوم التالى، وهى تتعلق بعملٍ فدائىٍّ يقوم به زملاء الشهيد على الجبهة ضد العدو المغتصِب. كانت تفرح وتهش له، ثم تعاود الحزن والألم مرة أخرى، لأن النصر الكامل وتحرير الأرض التى رُويت بدماء فلذة كبدها ما زالت مغتصَبة، والثأر لقلبها وشهيدها لم يتحقق بعد.

وكانت سلواها من الحزن والألم تلك الطيور التى كانت تأتيها مع نسمات الفجر الراحل وشروق أول ضوء للنهار، تنقر على نافذة حجرتها، تلك الحجرة التى يحتضنها النهر وتلفها جنات من الأشجار والنخيل. وعلى الفور تأخذ السيدة حبات القمح وطبقًا به ماء، فتضع على طرف طرحتها حبات القمح، فتسقط الطيور من أعالى النخيل لتلتقط الحبات وتشرب من بين يديها الماء فى أُلفةٍ بديعةٍ تثير الدهشة والإعجاب لكل من رأى وعاش هذا المشهد الذى يأخذ بسحره وجماله القلب والعقل معًا. وكأنها تطعم وتسقى شهيدها، الذى هو فى حواصل الطير كما كانت تعتقد.

وما إن  تنتهى الطيور من التقاط حبات القمح حتى تطير إلى أعالى النخيل لتطعم فى العش صغارها، وهنا تطلق من قلبها وعقلها رجاءً للنخيل تقول فيه:

بِرَبِّك يا نخلَ               بِرَبِّك يا مريمِىَّ الرُّطَبْ

لا تُحرك جريدَك حتى        لا تُخيف الطيورَ الواقفةَ عليكْ

لى فى حَشاها حشاىَ        لى فى حَشاها ملاكْ

ملكُ روحى لما طارَ بينَ الجِنانْ        لما صعدَ لما سعدَ عندَ مليكٍ

مقتدر روحُه لروحى تُطمئنُ             بأنَّ الفجرَ على البابِ ينتظرْ

وما إن تنتهى حتى تصرخ باكيةً: «اقطعوا حبال الصبر بسلاح الحق!».

وفى ليلةٍ من ليالى السحر، من شهر الصوم والصبر، تنهض السيدة فرِحةً وتطلق شلّالًا من الزغاريد والتكبير، يشق سكون ليل القرية الوديعة التى يحرسها من الخارج ضوء القمر، المنعكس بريقًا وجمالًا على شواش الشجر وسعف النخيل. وكانت تلك الليلة هى ليلة العاشر من رمضان السادس من أكتوبر. وقد هرع إليها الجيران، فأكدت لهم أن ابنها الشهيد قد جاءها، يسبقه صوت ودعاء كروانه، وقد أخبرها أن زملاءه «قطعوا حبال الصبر بسيوف النصر، قطعوا حبال الصبر بسلاح الحق».

وبالفعل، وفى وضح النهار، تحققت نبوءة تلك السيدة، فقد قطعت القوات المسلحة حبال الصبر بسلاح الحق، إذ عبرت بالأمة كلها ليس من ضفة إلى أخرى فقط، بل عبرت بها من حال إلى حال: من حال الانكسار إلى حال الانتصار، ومن حال الإحباط إلى حال الأمل فى أن أصبح لمصر درع وسيف. وكذلك عبرت السيدة من حال الحزن والألم إلى فرحٍ تحكى به عن صوت الكروان ودعائه، الذى يأتيها كل ليلة بعد النصر ليخبرها: «بأنى شهيدُ حقٍّ، لأنى لم أُعَادِ، ولم أكن البادئ بظلم، فأنا الحامى والحارس للحق، ويريد غيرى أن يسلبه منى».

وتتدفق السيدة كالنهر الجارى فى الحكى عن رؤياها الليلية مع ابنها الشهيد، كأنها نبوءات: «قال لى إنه شهيد وشاهد على من يقدّر ويعى دمائى التى روت تلك الأرض الغالية، تلك الأرض التى تعاود صخورها ورمالها صدى النداء، وينعكس على جبالها نور التجلى ضياءً يملأ الأرجاء. فعلى أرضها، وعند الوادى المقدس طوى، سمع نبى من أنبياء الله صوت النداء، وعلى جبالها تجلى الله نورًا وبريقًا، فلذلك كان الصراع على من يفوز بالبركات والخيرات، على من يفوز بأرض التجلى والنداء. وإن الحق دوما مع أصحابها، أصحاب الأرض».

ملحوظة مهمة: جزء من القصة وجزء من الشعر رواهما لى الشاعر الجنوبى الراحل د. محمد أبودومة .

عادل سليمان معد برامج بتلفزيون الصعيد
التعليقات