صار ما صارش؟ هو عنوان برنامج أسبوعي للمسابقات يذاع على قناة الحوار التونسي، وتقوم فكرة البرنامج على طرح مجموعة من الأقوال والأحداث الغريبة على شباب من الجنسين وسؤالهم عما إذا كانوا يعتقدون أن تلك الأشياء قد وقعت بالفعل أم لم تقع، وعلى أثر ذلك يتبارى المتسابقون في الإجابة فمنهم من يخطئ ومنهم من يصيب. ما الداعي لأن يتعرض مقال انطباعات لهذا البرنامج الذي لم يسمع به الكثيرون في مصر؟، الحكاية التالية تتولى الشرح .
***
في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة التونسية كانت المقاهي على الجانب الأيمن تزدهر بروادها، غيّرت الثورة التونسية كثيرا من طبائع الشعب.. صار الشعب التونسي يسهر أكثر وأصبح من المألوف أن تجد المارة ورواد مقاهي الرصيف يثرثرون ويتضاحكون حتى الساعة التاسعة مساء وربما حتى العاشرة، قبل ذلك كانت الشوارع تقفر بحلول الساعة السادسة وكان العثور على رغيف من الخبز (الباجيت الفرنسي الشهير) إن أنت تخطيت السادسة مساء من الصعوبة بمكان. بدا الأمر كما لو أن صيحة "بن علي هرب .. بن علي هرب " التي أطلقها المحامي التونسي المخضرم عبد الناصر العويني في آخر أيام الثورة فتحت شهية كل التونسيين أو كما في اللهجة الدارجة "التوانسة الكل" للحياة والسهر والتسامر، لا ليس هذا فقط لكن يبدو أيضا أن شهية التونسيين انفتحت للحراك والتظاهر المتكرر في هذا الشارع نفسه، لذلك أضاف الإعلام إلى الاسمين المتداولين للشارع وهما الحبيب بورقيبة والشانزليزيه اسم شارع الثورة .
***
من العديد من مقاهي الرصيف كانت تنبعث أغنيات مصرية قديمة، فهذه الأطلال لأم كلثوم وهذا سواح لعبد الحليم حافظ وها هو محرم فؤاد يغني للحلوة وشباكها الذي تحيط به من كل جانب شجرة فاكهة ولا في البساتين، قوة مصر الناعمة .. قوة مصر الناعمة يا ناس لو ندري قيمتها في ربط القلوب والتأليف بين طبائع الشعوب العربية. هذا الشيخ ذو الطاقية الحمراء التقليدية يحتسي الشاي التونسي الشهير ويصيح في انسجام تام "الله الله يا ست" فتتنزل الرحمات على كوكب الشرق التي منحتنا حنجرتُها الذهبية كل هذا الحب وكل هذه الروعة. لكن رواد المقاهي أكثرهم شباب فشعوبنا العربية شعوب فتية، وأن تظل أم كلثوم تصدح بعد كل هذه السنين بأطلال إبراهيم ناجي فهذا يعني أن غناءها له جمهوره الشاب، لن تفقد مصر صلتها إذن بهذه الأجيال الشابة أبدا، يارب.
***
هذه هي صورة مصر القديمة التي تتناقلها ذاكرة الشعوب العربية وهذا هو الانطباع عن قوتها الناعمة، فما بال اليوم؟ مساء يوم الثلاثاء ٢٣ نوڤمبر أذيعت حلقة من برنامج "صار ما صارش ؟" وأعيد بثها في اليوم التالي أيضا، الأستوديو يضج بشباب متحفز للتفاعل مع ما يتلى عليه من غرائب المواقف والأحداث، وإذ فجأة يسأل مقدم البرنامج: فتوى في مصر تبيح الزواج من الجنين الأنثى وهي في بطن أمها: صار والا ما صارش؟ يا للكارثة! ماذا أوصل هذه الفتوى الشاذة إلى تونس؟ سؤال لا محل له في زمن السماوات المفتوحة وتطور وسائل الاتصال الاجتماعي. انقسم الشباب إزاء الإجابة على سؤال مقدم البرنامج بين خمسة ردوا بأن هذا لم يصر وثلاثة ردوا بأن هذا صار، فعلق المقدم قائلا: مع الأسف صار. بعد هذه اللقطة المفاجئة انطلقت موجة مؤلمة من السخرية فقال شاب إن كل شيء في مصر الآن ممكن يصير، وقال آخر هب أني أردت معانقة خطيبتي وهي جنين فهل أُقّبل بطن أمها في هذه الحالة؟. انتقل مقدم البرنامج لسؤال آخر: طبق من الصراصير المثلجة في بريطانيا: صار والا ما صارش؟
***
بين مقاهي تونس العامرة وبين البرنامج إياه على إحدى قنواتها الفضائية توجد مصران لا مصر واحدة يتفاعل التونسيون مع كل منهما بشكل مختلف، يتغنون مع قديمها ويتوارثونه جيلا بعد جيل ويتندرون علي جديدها ويضعونه على قدم المساواة مع أخبار شاذة من نوع الصراصير البريطانية المثلجة، وشتان بين قوة ناعمة وأخرى، لا لا ثانية واحدة.. هل هذا النوع من الفتاوى العجيبة يمثل أصلا قوة ناعمة؟ اتقوا الله فينا.. تدبروا فتاويكم قبل أن تلقوا بها في وجوهنا فتلفح صورة مصر في المخيلة العربية. لكن الأمر أكبر من فتاوي ثلة من الشيوخ تتحدى العقل وتجافيه.. هذا العقل الذي مازال الله جل وعلا يوصينا بإعماله تدبراَ وتبصراَ وتمعناَ وتفكراَ حتى يظهر الإيمان والعقلانية كأنهما وجهان لعملة واحدة. نعم الأمر أكبر لأنه يتعلق بهذا السيل من الفن الغث والأدب الغث والإعلام الغث الذي يتطاير رذاذه بسرعة البرق فينتقل إلى بلدان عربية ومهاجر عديدة تتخذها الجاليات العربية موطنا لها .
***
ليت أن فتوى زواج الجنين لم تصدر، وليت أن المتسابقين التونسيين الخمسة الذين هالتهم هذه الفتوى العجيبة وأنكروا صدورها كانوا على حق في إنكارهم. نعم ليت أن ما صار لم يصر فعلا فليست كل ليت تفتح الباب لعمل الشيطان، بل إن ليت أحيانا قد تغلق أبواب شرور كثيرة.