أحيى قراء هذه الصحيفة، وأتمنى لهن ولهم عاما سعيدا، وأن تنجح مصر فى مواجهة تحديات هائلة تنتظرنا فى هذا العام الجديد، وهى استمرار لتحديات أورثها لنا العام المنصرم، وأعد القارئ بأن أبحث له عن ضوء أمل وسط سماء ملبدة بالغيوم، دون أى محاولة لخداع النفس بادعاء وجود منفذ شعاع لم يبرق، أو بتصوير الخروج من النفق الذى انزلقنا إليه وكأنه رحلة ميسورة لا تكتنفها صعاب، ولا يقتضى القيام بها استيفاء شروط للمرور.
•••
ليس هناك جديد فى القول بأن أخطر ما نواجهه جميعا، نخبة وجماهير، شعبا وحكومة، هو التحدى الاقتصادى، والذى يتمثل فى عجز هائل فى الموازنة العامة قد تجاوز بالفعل حاجز الـ10%،ليصل إلى 10.8% من الناتج المحلى الإجمالى، وعجز آخر فى ميزان المدفوعات يصل إلى ما يتجاوز أحد عشر بليون دولار. معنى العجز الأول إخفاق الحكومة فى تحمل جانب من التزاماتها الأساسية سواء بدفع مرتبات وأجور العاملين بها أو تقديم الخدمات العامة برسوم ميسورة وبكفاءة معقولة لأغلبية المواطنين، وهو ما بدت علامات الإخفاق فيه واضحة للعيان فى انقطاع التيار الكهربائى لساعات عن مدن الأقاليم وشكوى المزارعين من قلة توافر مياه الرى، وخطورة العجز الثانى هو عدم القدرة على الوفاء بفاتورة الواردات التى تشمل القمح ومواد غذائية أخرى ومستلزمات الإنتاج، وهو ما يعنى بدوره ارتفاع أسعار الخبز وغيره من المواد الغذائية، وتوقف العديد من المصانع عن العمل واضطرارها لخفض العمالة فيها، وكل هذا يؤدى إلى اتساع دائرة الفقر ليسقط فيها أكثر من ربع السكان الذين تعترف إحصائيات رسمية بأنهم قابعون فيها، وليتضخم جيش العاطلين بكل ما يحمله ذلك من نذر اجتماعية أخذت فى الظهور، ومرشحة للتزايد فى المستقبل القريب.
وتعول الحكومة على قرض تحصل عليه من صندوق النقد الدولى تتصور أنه سيفتح الباب أمامها للحصول على مساعدات أخرى من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى ودول عربية ومؤسسات مالية دولية وإقليمية. وهى كلها وعود، ولكن لا يبدو أن هناك تفكيرا فى خطة بديلة إذا لم تتحقق هذه الوعود. وهو أمر لا ينبغى استبعاده على ضوء انخفاض التقدير الإئتمانى لمصر فى تقارير مؤسسات الإئتمان الدولية، وعلى ضوء التكلفة السياسية لقرض الصندوق والذى قد تخشى أى حكومة من تنفيذ شروطه قبل انتخابات مقبلة، وهى شروط سوف ترفع بالفعل من أسعار سلع أساسية للمواطنين، فضلا عن ارتفاعها الناجم عن العجز الآخر فى ميزان المدفوعات والذى يسبب قلة المعروض من العملات الأجنبية اللازمة لتمويل الواردات، وهو ما بدأت آثاره بالفعل. وحتى إذا كان الحصول على القرض هو فى رأى جمهرة من الاقتصاديين الدواء الضرورى لمنح الاقتصاد المريض قدرا من التعافى فإن استكمال الشفاء رهن بمهارة الطبيب المعالج. ولا شك أن خبرة الشهور الأخيرة فى إدارة الدكتور هشام قنديل لا تبعث الأمل فى أنه سيكون الطبيب الذى سيكتب على يده شفاء المريض.
والعجيب فى الأمر أن هناك طريقا آخر يوحى بتعافى المريض سريعا، ولكنه مستبعد ليس لعدم مصداقيته، ولكن لقلة احتماله، تصور عزيزى القارئ أن توافقا وطنيا قد حدث حول القضايا التى ولدت هذا الاستقطاب فى حياتنا السياسية. وهى أساسا المواد الخلافية فى الدستور، وأضيف من عندى تشكيل حكومة وفاق وطنى تضم أفضل العقول فى مصر ويترك لها مكتب الإرشاد فى جماعة الإخوان المسلمين الاستقلال الضرورى لمزاولة مهامها. سيأتى هذا الوفاق ليس بقرض صندوق النقد الدولى ولكن سيحقق الاستقرار السياسى، ويعيد السياحة، ويطمئن المستثمرين المصريين والعرب والأجانب، ويقلل من مرارة الدواء المطلوب لتعافى اقتصادنا. ولكن الوصول إلى هذا الوفاق أمر ليس بالميسور، ولا يبدو أنه محتمل. طبعا من السهل القول بأن المسئولية هنا مشتركة يتحملها طرفا الاستقطاب فى الحياة السياسية المصرية، أى الرئيس وجماعته من ناحية، والمعارضة الممثلة فى جبهة الإنقاذ الوطنى من ناحية أخرى. ولكن الشق الأكبر من المسئولية يقع على من هو فى موقع قائد السفينة، فهو المنوط به أن يصل بالسفينة إلى بر الأمان.
•••
لا يبدو أنى نجحت فى أن أنقل إليك عزيزتى القارئة وعزيزى القارئ توقعات متفائلة فيما يتعلق بالعام الجديد ولا فى تقويم العام الماضى. سأبذل جهدا فى مجال آخر وهو مجال السياسة، ولكن مرة أخرى دون استغراق فى الأوهام. هل أحدثنا نقلة فى حياتنا السياسية؟، وهل يظهر ذلك فى الكتابات الأكاديمية الجادة؟. طبعا هناك نقلة نوعية لا يمكن التهوين منها بالانتقال من نظام التوريث العائلى لمقاليد السلطة فى مصر ومن الانتخابات المزورة إلى نظام يقوم على الانتخابات ويرفع القيود على تشكيل الأحزاب.
أكاد أرى بسمة السخرية على شفتيك. لا تقلل أرجوك من أهمية هذه النقلة، ولكنى أفهم، ويفهم هؤلاء الأكاديميون، دواعى سخريتك. لقد حققت معظم دول العالم مثل هذه النقلة من نظم سلطوية مستبدة إلى نظم تقوم على الانتخاب، ولكن لأن صندوق الانتخاب ليس هو الشرط الوحيد للديمقراطية فقد أصبح الأكاديميون المهتمون بهذه المسائل يولون اهتمامهم إلى ما يسمونه نوعية الديمقراطية. قد ترى أنهم يغالون فى ذلك، ولكنى مقتنع بأنك ستجد لهم العذر وهم يبحثون عما تعنيه الديمقراطية بالنسبة للمواطن العادى.
وهكذا فقد اجتهد بعض علماء السياسة النمساويين، وليس الأمريكيين المتهمين دائما بأنهم عملاء للمخابرات المركزية وللصهيونية العالمية حتى ولو كانوا من المعروف عنهم النزاهة والاستقلال فى الرأى، هؤلاء الخبراء النمساويون طرحوا مقياسا لنوعية الديمقراطية توسعوا فيه كثيرا عن مجرد الاحتكام إلى صندوق الانتخاب، ومن ثم فقد أدخلوا فيه مؤشرات عديدة تشمل الحقوق السياسية والحريات المدنية والمساواة بين الجنسين وحرية الصحافة وانخفاض الفساد وتداول السلطة فى الحكومة وفى الأحزاب السياسية، وأضافوا إلى ذلك مؤشرات اقتصادية مثل متوسط دخل الفرد ومعدل التضخم ومعدل البطالة، ومعدل البطالة بين الشباب ونسبة العجز فى موازنة الحكومة، ومؤشرات تتعلق بالتمييز ضد النساء سواء فى سوق العمل أو فى التعليم وذلك فضلا عن مؤشرات خاصة بمدى توافر الخدمات الصحية والتعليمية لكل المواطنين، ولم يغفل هذا المقياس أخيرا مؤشرات تتعلق بمدى الانخراط فى ثورة المعلومات العالمية سواء باستخدام أدوات الاتصال الاجتماعى أو من خلال نسبة الإنفاق على التعليم والتطوير أو المشاركة فى هذه الثورة بالكتابة فى الدوريات العلمية المتخصصة.
•••
لقد أجرى هؤلاء العلماء النمساويون حساباتهم، وطبقوها على مائة وأربع دول وخرجوا بثلاثة جداول، أحدها عن مستوى الديمقراطية وفقا لهذه المؤشرات، والثانى عن مدى التحسن فى تعميق الديمقراطية، ثالثها عن نوعية الديمقراطية.. وكان أداؤنا الأفضل هو فى التحسن فى الأداء الديمقراطى، فكان موقع مصر هو الحادى عشر، بينما احتلت تونس الموقع الأول وليبيا الموقع الثالث، أما فى الترتيب بين الدول الديمقراطية فكان موقع مصر هو السابع والتسعون من بين مائة وأربع دول، ويعود ذلك إلى نوعية الأداء الديمقراطى فى مصر والذى تدهور إلى المستوى المنخفض جدا ( من صفر إلى 39 فى المائة).
هل يبدو هذا التقدير لأدائنا الديمقراطى ظالما؟. لو كان هذا التقدير متعسفا فعلينا تجاوز أداء ديمقراطى اقتصر حتى الآن على إجراء انتخابات هى عموما ذات مصداقية، ورفع القيود على حرية تكوين الأحزاب، وممارسة حقى التجمع والتعبير وقد أصبحا تحيط بهما المخاطر.
•••
وعدتك عزيزى القارئ ألا أخفى عنك رؤية العالم لنا. أوضاع اقتصادية مزعجة وتطور سياسى محفوف بالصعاب. هكذا نستقبل العام الجديد. وهكذا نعرف حجم التحديات التى تواجهنا. وستكون مكافأتنا هى بمقدار ما نبذل من جهد مسئول فى مواجهة هذه التحديات.