تعد قضية أكراد سوريا من القضايا الصعبة بحكم نشأتها وتطوراتها، سواء فى جانبها المحلى وعلاقاتها مع السلطة المركزية فى دمشق ومدى التوافق أو الاختلاف معها فيما يتصل بالخصوصية العرقية والثقافية للأكراد ومدى حريتهم فى ممارستها رسميًا وعلنيًا، أو فيما يتعلق بالسلطة وإدارة شئونهم بما يتفق مع خصوصيتهم ويحترمها، أو فى جوانبها العابرة للحدود فى تواصل عرقى وثقافى مع الأقليات الكردية فى مثلث الحدود السورية العراقية التركية، وإضافة صعوبات كبيرة مع تركيا بالذات التى هى فى صراع طويل مع حزب العمال الكردستانى التركى والذى له امتداد فى سوريا، وكان زعيمه عبدالله أوجلان التركى مقيمًا فى شمال سوريا ويقود الحزب التركى الكردى حتى عام 1998 عندما أخرجه نظام حافظ الأسد، وألقى القبض عليه فى نيروبى 1999 بواسطة المخابرات التركية، وأودع السجن حتى الآن.
وعقب قيام ثورة ضد النظام السورى فى 2011، ودخول فصائل مسلحة (معظمها مصنفة إرهابية) إلى سوريا، وتسليح جماعات متعددة من المعارضة للنظام، كان أكراد سوريا، خاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فى مقدمة المحاربين ضد هذه الفصائل الإرهابية المنبثقة عن تنظيم القاعدة، وتنظيم داعش وغيرهما، وحققت تفوقًا كبيرًا على هذه الفصائل فى شمال شرقى سوريا فى عام 2014، وهو ما لقى ترحيبًا من نظام بشار الأسد الذى أعطاهم حرية نسبية فى حماية شمال شرقى سوريا من الفصائل والجماعات الإرهابية، والمعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا ودول أخرى.
استثمر أكراد سوريا سيطرتهم على منطقة واسعة سواء فى المناطق ذات الأغلبية الكردية أو ذات الأغلبية العربية، وأنشأوا إدارة ذاتية، سياسية وإدارية واقتصادية. وحققوا مطالبهم التى لم يسمح لهم بها النظام السورى من قبل، ومنها تعليم اللغة الكردية، والثقافة والتاريخ فى المدارس، واستخدام اللغة الكردية فى أجهزة إعلام خاصة بهم من إذاعة وتلفزيون، وصحف ومجلات وكتب، وهو ما لم يكن مسموحًا به كله من قبل.
حظى أكراد سوريا بدعم أمريكى قوى فى كافة المجالات من خلال القوات العسكرية الأمريكية التى تحتل جزءًا من شمال سوريا الغنى بآبار البترول والغاز وإنتاج القمح. وتبنت القوات الأمريكية تدريب وتسليح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتى يمثل الأكراد نحو 60% منها ويتولون قيادتها. وقد بلغ عدد المقاتلين الأكراد الذين تلقوا تدريبًا وتسليحًا أمريكيًا نحو 60 ألف شخص، واعتبرهم الأمريكيون فى إطار التحالف الدولى الذى يقودونه لمحاربة الإرهاب وخاصة داعش فى كل من سوريا والعراق.
• • •
أدى هذا الدعم الأمريكى القوى إلى جانب إقامة الإدارة الذاتية للأكراد السوريين وصياغة نظام دستورى خاص بهم إلى أمرين أولهما التباعد بينهم ونظام الأسد الذى لم يوافق لا على الدعم الأمريكى المحتل، ولا على الإدارة الذاتية ومطالبة الأكراد بالاحتفاظ بها بعد تسوية الأزمة السورية. ولم تنجح جهود ومساعى روسيا فى إنجاح التواصل والحوار بين النظام والأكراد. وثانيهما ازدياد انزعاج وقلق تركيا من حصول أكراد سوريا على قوة عسكرية يعتد بها، ومطالبهم بحكم ذاتى، أو إدارة ذاتية، مع تصنيفهم منظمة إرهابية واعتبارهم امتدادا لحزب العمال الكردستانى التركى الذى فى صراع طويل مع السلطات التركية. وترى تركيا أن هذا يمثل خطرًا كبيرًا على أمنها القومى، ومن ثم عملت على عدة مستويات متوازية، المستوى العسكرى بأن قامت فى عام 2018 باحتلال مناطق فى شمال سوريا لمنع أى تواصل بين الحزب الديمقراطى الكردى السورى وحزب العمال الكردستانى التركى، والمطالبة بنزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية وإبعاد الأكراد السوريين عن منطقة الحدود السورية التركية، ورفض منحهم حكمًا ذاتيًا أو إدارة ذاتية والمناداة بوحدة وسلامة الأراضى السورية تحقيقًا لهذا المطلب، والسعى لتحسين العلاقات مع نظام بشار الأسد، وفى نفس الوقت إعداد البديل بالتعاون مع الفصائل المسلحة للتدخل ضد نظام الأسد فى الوقت المناسب، وهو ما حدث فى 27 نوفمبر، وتم إسقاط نظام الأسد فى 8 ديسمبر 2024، أى فى فترة زمنية لم تتجاوز 11 يومًا. ودخل أكراد سوريا فى مرحلة أكثر تعقيدًا نظرًا لما لتركيا من نفوذ لدى الفصائل السورية المسلحة، خاصة الجيش الوطنى السورى، الذى دخل فى اشتباكات مستمرة بدعم تركى ضد قوات سوريا الديمقراطية الكردية.
ظهرت حدة الموقف التركى فى خطاب الرئيس أردوغان أمام اللجنة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم فى 25 ديسمبر 2024، حيث قال «إنه إما أن يلقى أكراد سوريا سلاحهم، أو أن يدفنوا فى الأراضى السورية مع أسلحتهم»، مؤكدًا أن تركيا ستتصدى لجميع التنظيمات الإرهابية التى تحاول استغلال الظروف الحالية فى سوريا. واتخذت تركيا خطوات عملية بالتعاون مع الجيش الوطنى السورى الموالى لها لإبعاد القوات السورية الديمقراطية عن الحدود، ومحاولة إخراج الأكراد بالقوة من بعض المدن المهمة وتمثل رموزًا لوجودهم وصمودهم مثل مدينة عين العرب (كوبانى) ومنبج وغيرهما.
• • •
فشلت الوساطة الأمريكية وبعض دول التحالف الدولى لمحاربة داعش، من أجل التهدئة وعدم التصعيد بين تركيا وقوات قسد الكردية، والتوصل إلى هدنة دائمة والدخول فى مفاوضات للاتفاق على ترتيبات على الحدود السورية التركية تطمئن إليها أنقرة. وسبق أن قال وزير الخارجية الأمريكى بلينكن إنه من الضرورى استمرار العمل ضد داعش بعد سقوط نظام الأسد، مؤكدًا أن دور مقاتلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حيوى لمنع عودة تنظيم داعش. بينما قال وزير خارجية تركيا فيدان، إن تركيا نفذت، منذ عام 2016، عدة عمليات عسكرية ضد المقاتلين الأكراد فى شمال سوريا وتمكنت من السيطرة على شريط حدودى واسع، وأن من أولويات تركيا سرعة استقرار سوريا، ومنع انتشار الإرهاب، ومنع داعش، وحزب العمال الكردستانى من السيطرة فى شمال سوريا.
ثمة تحرك آخر داخل تركيا قام به عضوان فى البرلمان التركى ينتميان لحزب الديمقراطية والمساواة للشعوب المعارض، حيث قاما بزيارة الزعيم الكردى عبد الله أوجلان فى سجن فى جزيرة إيمرالى التركية، بعد إذن من المحكمة العليا، وقد أبدى أوجلان استعداده للمساهمة فى عملية سلام تعزز الأخوة بين الشعبين التركى والكردى، وأن هذا يتطلب المساهمة الإيجابية من جميع القوى السياسية التركية وفى مقدمتها البرلمان، وأنه يتعين حل المشكلة الكردية بعد أحداث غزة وسوريا. وسبق أن أجريت مفاوضات فى هذا الشأن ما بين 2013-2015، ولكنها توقفت من الجانب التركى. وكان حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب اقترح من قبل استدعاء أوجلان من سجنه لإلقاء بيان أمام البرلمان التركى عن رؤيته لتسوية القضية الكردية ومناقشته. ولكن الأحزاب القومية اليمينية عارضت الاقتراح، وصرح زعمائها عقب تصريحات أوجلان أنهم سيدرسونها ويقررون ما سيتم بشأنها.
قد أدلى قائد قوات قسد السورية مظلوم عبدى، بأنهم على استعداد لإدماج قواتهم فى الجيش السورى الجديد بعد الاتفاق على صيغة مناسبة عبر التفاوض، مشددًا على بقاء سوريا موحدة، وتحديد نظامها السياسى متروك للشعب السورى، والمناقشات الدستورية. وأنهم اقترحوا على تركيا منطقة منزوعة السلاح على الحدود، دون استجابة منهم حتى الآن. كما أنهم مستعدون من حيث المبدأ لتولى الإدارة السورية الجديدة أمن الحدود. ويرى أن تكون سوريا دولة لا مركزية تعددية وممارسة هويتها المتنوعة، وحقوق جميع مكونات الشعب السورى، بما فيهم الأكراد، مع استعدادهم للمشاركة فى الحكومة الانتقالية السورية، وأن يناقش السوريون مستقبل بلدهم دون تدخلات خارجية، وأن مناطق الإدارة الذاتية الكردية سورية ويجب أن يكون لممثليها دور وصوت مسموع. وأن قسد ليس لديها ارتباطات تنظيمية مع حزب العمال الكردستانى (التركى) وإن كانت بعض عناصره مشاركة مع قسد فى محاربة داعش، وأنه سيتم إخراجهم فور انتهاء العمليات العسكرية فى شمال وشرق سوريا.
وأوضح رئيس الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، أن وزارة الدفاع ستضم القوات الكردية إلى صفوفها، ولن يسمح أن تكون سوريا منصة انطلاق لهجمات حزب العمال الكردستانى، وأنه تجرى مفاوضات مع قسد الكردية لحل أزمة شمال وشرق سوريا. وأن الأكراد جزء لا يتجزأ من المكونات السورية، وأن الإدارة الجديدة ستعمل على إعادة الأكراد إلى قراهم التى نزحوا منها نتيجة القتال الدائر هناك. وأكد الشرع أنه لا تقسيم لسوريا بأى شكل، ولا فيدرالية. وهذا تأكيد على عدم الموافقة أن يكون للأكراد السوريين أى تميز عن الفئات السورية الأخرى، سواء بحكم ذاتى أو إدارة ذاتية.
ومن ثم يتضح مدى تعقيدات قضية أكراد سوريا وارتباطها بأزمة أكراد تركيا، وقد أصبحوا فى موقف ضاقت فيه اختياراتهم إزاء النفوذ التركى الحالى فى سوريا من ناحية، وصعوبة وعظم التضحيات إن هم اختاروا الاستمرار فى القتال، لعدم التكافؤ بين قواتهم والقوات التركية، وأن الدعم الأمريكى له حدود معينة وقد يساعدهم على الاحتفاظ بما حققوه من استخدام اللغة الكردية فى التعليم والثقافة والإعلام والحصول على نصيب عادل من عمليات إعادة الإعمار والتنمية.