دبلوماسيون.. وأدباء - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دبلوماسيون.. وأدباء

نشر فى : الخميس 7 أبريل 2022 - 8:25 م | آخر تحديث : الخميس 7 أبريل 2022 - 8:25 م

فى سياق الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس وزارة الخارجية وهو اليوم الذى يتم إحياؤه سنويا باعتباره يوم الدبلوماسية المصرية وعيدها، تتاح المناسبة لإلقاء الضوء على بعد هام قد لا يكون معلوما بالضرورة لدى الكثيرين من القراء وهو حقيقة أن العديد من الدبلوماسيين الذين انضموا لصفوف مؤسسة الدبلوماسية المصرية على مدى تاريخها، وبعضهم من وصل إلى أعلى المناصب فى مسيرة عملهم الدبلوماسى، هم أيضا من أهم الشخصيات التى برزت على ساحة المشهد الأدبى المصرى والعربى، سواء كروائيين أو قصاصين، بالإضافة إلى من برز منهم كشعراء، وأثروا الحياة الأدبية المصرية والعربية لسنوات طويلة وبعضهم من حصد العديد من الجوائز وغيرها من أشكال التقدير على الأصعدة المصرية والعربية بل والعالمية فى ميادين الأدب المتنوعة، وهو الأمر الذى عبر عن الأثر العميق الذى تركه هؤلاء على مسيرة تطور الأدب المصرى والعربى. ويصدق هذا على مراحل تاريخية سابقة كما يصدق على زماننا الراهن.

   وتوجد أمثلة عديدة يمكن أن نذكرها لدبلوماسيين مصريين عبر مراحل تاريخية متعاقبة وأزمنة متتالية، بعضهم من وصل إلى أعلى المراتب فى السلك الدبلوماسى المصرى وبعضهم الآخر ترك العمل الدبلوماسى فى مرحلة أو أخرى للتفرغ للإسهام فى الحياة الأدبية ولأنواع أخرى من الكتابة، إلا أنهم جميعا، وإن بدرجات متفاوتة، أثروا الأدب المصرى والعربى بأنواعه المختلفة بأشكال وصور متعددة وتركوا بصمات واضحة لا تمحى عليه. 

   وربما نكتفى من المنظور التاريخى بذكر حالة الأديب والكاتب الكبير الأستاذ يحيى حقى مؤلف اثنين من أهم روائع الأدب المصرى والعربى الحديث والمعاصر، وهما «قنديل أم هاشم» و«البوسطجى»، بالإضافة إلى أربعة مجموعات من القصص القصيرة والكثير من المقالات والكتب الأخرى، بعضها كتابات تاريخية، والأخرى كتابات ذات طابع اجتماعى. إلا أن الوجه الآخر الذى ربما لا يعرفه الكثيرون عن الأديب الكبير يحيى حقى أنه عمل لسنوات طويلة فى وزارة الخارجية المصرية وارتقى فى سلم الدبلوماسية المصرية إلى أن عمل مديرا لمكتب وزير الخارجية المصرى فى أربعينيات القرن العشرين ثم ترأس بعثة مصر الدبلوماسية لدى ليبيا الشقيقة فى مطلع استقلالها عن الاحتلال البريطانى فى خمسينيات القرن العشرين.

   وعلى الجانب الآخر فإن من النماذج البارزة والمشرقة لدبلوماسيين، بل سفراء، مصريين بزغوا فى عالم الأدب وتلألأوا كالنجوم فى سمائه ولا تزال، نختار هنا حالة السفير محمد توفيق، والذى تقلد العديد من المناصب الهامة والرفيعة بوزارة الخارجية المصرية عبر المسيرة الطويلة لعمله الدبلوماسى، والتى كان آخرها قبل تقاعده منذ سنوات قليلة منصب سفير مصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وفى الوقت ذاته فهو مؤلف لعدد من الروايات التى تركت بصماتها الواضحة على مسيرة تطور الأدب الروائى المصرى والعربى بداية بمجموعته القصصية «الفراشات البيضاء»، ثم الثلاثية الروائية «ليلة فى حياة عبدالتواب توتو»، و«طفل شقى اسمه عنتر» و«فتاة الحلوى»، والأخيرتان قام بترجمتهما بنفسه إلى اللغة الإنجليزية ونشرتهما دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم جاءت أخيرا وليس آخرا فى عام 2021 رواية «همس العقرب»، والتى جاءت لتؤكد أن كل رواية للسفير محمد توفيق تمثل إضافة حقيقية وتشكل قيمة جديدة وتعكس نقلة نوعية فى إنتاجه الأدبى الثرى والعميق والمتنوع فى آن واحد. كما أنه عضو بنادى القلم الدولى وباتحاد كتاب مدينة جنيف السويسرية واتحاد كتاب العاصمة الأسترالية كانبرا واتحاد كتاب مصر، كما أنه المستشار الأدبى لمنتدى الكتاب العربى.

   إلا أن السفير محمد توفيق ليس مجرد دبلوماسيا وسفيرا بارزا فى مسيرة الدبلوماسية المصرية وأديب ذى مكانة مرموقة ورفيعة على خارطة الأدب المصرى والعربى المعاصر فحسب، بل إنه أيضا جمع بين كونه خريجا من كلية الهندسة، وبين قيامه فى مراحل مبكرة من حياته بمتابعة الدراسات العليا فى مجالى العلاقات الدولية والقانون الدولى، سواء داخل مصر أو فى جامعات عالمية مشهود لها بالتميز فى هذه المجالات. 

   وسوف أركز هنا بشكل خاص على رواية همس العقرب نظرا لأنها وصلت إلى الترشح ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بـ«البوكر العربى»، وهى واحدة من أهم جوائز الأدب العربى فى السنوات الأخيرة، وهى رواية تأتى فى سياق أوسع من الاهتمام بما يمكن تسميته بـ«الروايات التاريخية»، وإن كان التاريخ هنا وفى هذه الرواية هو تاريخ حديث وقريب نسبيا من الناحية الزمنية ولا يضرب بجذوره فى أعمال التاريخ كما فى حالة روايات أخرى ظهرت وانتشرت فى الآونة الأخيرة لعدد من كبار الأدباء المصريين والعرب. فرواية «همس العقرب» هى المفترض أنها مستوحاة كفكرة من رحلة صحراوية قام بها أحمد حسنين باشا، والذى صار لاحقا رئيسا للديون الملكى فى عهد الملك الراحل فاروق، والمستكشفة البريطانية «روزيتا فوربز» إلى واحة الكفرة الليبية، عبر الصحراء الغربية المصرية، فى عام 1920، وبعد ذلك بسنوات طويلة، وتحديدا فى شهر مايو من عام 1938، يلتقى حسين باشا و«مس روز» (كما تسميهما الرواية، حيث أكد الكاتب أن أحداث الرواية بالكامل مستوحاة من خياله) فى حفل خاص أقامه الملك الراحل فاروق فى قصره بالمنتزة بالإسكندرية. وعندما يلتقيان يتبادلان الحديث عن ذكريات الرحلة التى جمعتهما قبل ذلك بثمانية عشر عاما.

   وتتميز الرواية بأكثر من وجه يعكس العمق الإبداعى وثراء الأفق واتساعه لدى المؤلف السفير محمد توفيق، مع توظيفه لمدخلات نتيجة إلمامه الواسع بالاتجاهات الحديثة والمعاصرة فى الأدب العالمى بما يضيف لروايته نكهة متميزة وجاذبية ذات طابع خاص من قبل القارئ المصرى والعربى.

   اما أول هذه الوجوه فهو المزج الرائع بين التاريخ بمعطياته ومتطلبات العمل الروائى بتفاصيله الفنية الدقيقة وحبكته الدرامية، والواقع أننى شخصيا منحاز للرواية التاريخية وزيادة اللجوء إليها لدى عدد من كبار الأدباء والمصريين والعرب فى السنوات الأخيرة، حيث أن الرواية تزداد ثراء وتأثيرا عندما تدمج عناصر من التاريخ، ولو محدودة، مع عناصر من مخيلة الأديب والكاتب، ولو غالبة، ويتعاظم هذا التأثير لدى القراء من الشباب على وجه الخصوص. وفى حالة رواية «همس العقرب» للسفير البارز والروائى المتميز محمد توفيق، فالتاريخ جمع بين المحلى والعالمى، أى بين مصر ما بعد الثورة الوطنية الديمقراطية عام 1919 بكل الآفاق التى فتحتها للنزوع نحو التحرر الوطنى والاستقلال عن الاستعمار البريطانى آنذاك، والعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى بكل المآسى التى تولدت عنها على الصعيد الإنسانى وكذلك الآمال فى بناء عالم جديد أكثر عدلا وسلاما.

   أما الوجه الثانى فهو منهج التوازى فى الأحداث بين مشهدين ومسارين فى السياق الروائى، حيث فى هذه الحالة هناك مشهد الحفل الملكى فى قصر الملك فاروق فى المنتزه فى مايو 1938، بكل أحداثه وفعالياته ووجود سيدتين لهما دور فى حياة «حسين باشا» هما الملكة نازلى و«مس روز»، ومعه مشهد استحضار الرحلة إلى واحة الكفرة فى عام 1920 بكل ما فيها من روح مغامرة واستكشاف للمجهول الذى لم يسبق آنذاك أن وصل إليه مستكشفون أوروبيون آخرون، وما صحب ذلك من تفاعلات إنسانية سواء بين بطلى الرواية أو بينهما وبين أطراف وأحداث أخرى. وهذا المنهج يجعل القارئ فى حالة تلهف دائم على مواصلة القراءة والمتابعة للمسار الروائى بتمعن ودون انقطاع، وهو منهج رأينا استخدامه من قبل عدد متزايد من كبار الأدباء العرب وغير العرب على مدى السنوات الأخيرة.

   وثالث الوجوه التى لفتت نظرى وأعجبتنى فى رواية «همس العقرب» للسفير والأديب محمد توفيق هى موضوع التلاقى بين منتمين لأنساق ثقافية مختلفة فى لحظة تاريخية بعينها، وهما فى هذه الحالة «حسين باشا» و«مس روز»، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك إلى عرض انعكاسات التجاذب والتحاور بين مرجعيات ثقافية متباينة داخل نفس الشخص، وهو هنا بطل الرواية «حسين»، بين تعليم أزهرى ومنظومات قيمية شرقية مصرية وعربية من جهة وبين مرجعيات ثقافية جدت نتيجة السفر إلى أوروبا والتعرض لتأثيرات ثقافة مختلفة عن، بل ومغايرة فى بعض مكوناتها، لثقافته الأصلية من جهة أخرى.

   وهكذا عرضنا هنا لمثالين لاثنين من أهم الأدباء المصريين فى مرحلتين زمنيتين مختلفتين، هما السفير يحى حقى والسفير محمد توفيق، كما كان لكل منهما باع طويل وبصمة لا تمحى فى العمل الدبلوماسى المصرى، وذلك للتأكيد على أن الدبلوماسية المصرية ثرية على مدى تاريخها بأبنائها أصحاب المواهب والعطاء فى مجالات متنوعة من الفكر والثقافة والفنون.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات