ساعات قليلة وينتهى العام الأول من حكم الرئيس وتدخل مصر العام الثانى تحت قيادته كرأس للسلطة التنفيذية ورأس للدولة أيضا. يرى بعض الزملاء أن العام الأول من حكمه يجب عدم القياس عليه باعتباره مؤشرا لما هو قادم على اعتبار أنه عام «التسليم والتسلم» وأن العام الثانى سيكون مختلفا بشكل أكثر إيجابية، لأن الرئيس حتما حصل على خبرة فى الحكم لم يكن يمتلكها قبل ذلك، بينما يعتقد البعض الآخر أن العام الأول هو مجرد مؤشر لما هو قادم وأن الأمور ستتجه لمزيد من التصاعد خلال الفترة المقبلة.
•••
فى تقديرى، أن خبرة السنوات القليلة الماضية علمتنا درسا مهما وهو أن بناء سيناريوهات طويلة الأجل فى أوضاع سياسية رخوة كتلك التى تعيشها مصر هو إضاعة للوقت والجهد فيما لا يفيد. فمساحة عدم التأكد والغموض والسيولة فى المشهد المصرى تجعل كل السيناريوهات ممكنة بالفعل. وبالتالى فبدلا من رسم سيناريوهات للعام الثانى من حكم الرئيس سأحاول رسم ملامح عامة لشكل مصر خلال العام القادم من خلال تحديد الإجابة على ثمانية أسئلة رئيسية على النحو التالى:
أولا: هل سيعتمد الرئيس على ظهير سياسى؟ إجابة هذا السؤال ستساهم فى تحديد ملامح هذا العام الثانى، فهو أول رئيس منذ عهد الجمهورية لا يعتمد على ظهير سياسى يساعده فى الحكم وفى ربط سياسات الدولة العليا بالسياسات المحلية وجماعات الضغط القبلية أو الفئوية. كان الاتحاد الاشتراكى ومن بعده الحزب الوطنى يقومان بهذه المهمة وكان دورهما مزدوجا، فمن ناحية عملا كأدوات للضبط والتحكم فى جموع الشعب من خلال إيجاد صيغ زبائنية (تقديم خدمات وفرص توظيف وعقود استثمارية مقابل الولاء وطاعة النظام السياسى)، ومن ناحية أخرى فقد ساهما أيضا فى العمل كقناة تواصل بين الرئيس والجماهير. السيسى خلال العام الأول لم يبدُ أنه مكترث بأهمية هذا الظهير ومن هنا فقدْ فقدَ واحدة من أهم وسائل الضبط والتحكم والتواصل مع الجماهير.
ثانيا: هل سيعين الرئيس سياسيين مدنيين فى القصر؟ الإجابة عن هذا السؤال أيضا ستحدد بشكل كبير ملامح البيئة السياسية المصرية. فوجود أشخاص مدنيين ذوى خبرة سياسية فى الاتحادية سواء ضمن سكرتارية المعلومات أو فى الدائرة الضيقة لصنع القرار من شأنه تغيير طريقة وأداء وخطب السيسى وجعله أكثر مرونة فى التفاوض والحوار وفهم أن مصر الآن فى القرن الحادى والعشرين مع بيئة داخلية وإقليمية مليئة بالتهديدات والتغيرات لا يمكن أن تدار بأسلوب الفرق العسكرية حيث الهيراركية الشديدة والطاعة والولاء غير المشروطين، وأن النجاح السياسى هو فى إدارة الصراعات والاختلافات لا بالقضاء عليها.
ثالثا: هل سنرى أخيرا برلمانا؟ خلال هذا العام الثانى نحن أمام ثلاث احتمالات بخصوص البرلمان. أما الأول فهو أن يتم تعديل القوانين الانتخابية بشكل يسمح بالتعددية مع انفراج نسبى فى البيئة السياسية تسمح بمنافسة حقيقية تنتهى بائتلاف حكومى محدود (بين حزبين أو ثلاثة على الأكثر) يشتركون مع الرئيس فى تشكيل حكومة ائتلافية هى خليط من سياسيين وبيروقراطيين. أو أن تبقى القوانين على حالها فيظهر برلمان ضعيف مفتت ويتم تشكيل حكومة ائتلافية مهترئة بمشاركة عشرات الأحزاب والمستقلين. إما أن تتحول لحامل أختام السلطة التنفيذية أو تساهم فى المزيد من الانسداد السياسى وتقف عقبة عصية على الحل أمام السلطة التنفيذية فيكون مصيره الحل. أو ألا نرى هذا البرلمان إطلاقا خلال العام الثانى وتستمر السلطة التنفيذية وتحديدا مؤسسة الرئاسة فى الهيمنة على عملية التشريع.
رابعا: هل يقدم الرئيس على تهدئة سياسية تسمح بانفراجة فى المشهد؟ هذا أيضا سؤال مهم ستحدد الإجابة عنه شكل مصر فى العام الثانى من حكمه. والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة لأن السؤال يفترض ابتداء أن السيسى وحده هو صاحب قرار التهدئة السياسية أو الانفراجة فى المشهد، وهناك مؤشرات تقول إن القرار ليس قراره وحده وأنه مرتبط بآخرين ربما وراء الستار أو أنه مرتبط بقرار مؤسسات سيادية كالقضاء والأجهزة الأمنية أو خليط من الاثنين بحيث هو وحده ليس صاحب القرار حتى لو أراد. وأنه فى بعض التقديرات رمانة ميزان بين هذه الأجهزة والشبكات السيادية جميعا، يحاول الموازنة بينهم لكن لا يملك توجيههم وحده. فى كل الأحوال تبقى الإجابة عن هذا السؤال مهمة لتحديد ملامح المستقبل.
•••
خامسا: هل تصعد الجماعة والتيارات الإسلامية المتمترسة وراءها؟ والمقصود بذلك أنه وبعد تأييد الجماعة (أو قطاع منها على الأقل) لبيان «نداء الكنانة»، فهل تملك بالفعل الجماعة تحويل هذا التبنى الصريح للعنف للمزيد من العمليات على الأرض؟ وهل ستكون هذه العمليات الإرهابية العنيفة مؤثرة على صانع القرار الرسمى فيحاول احتواءها أو أنها ستواجه بمزيد من القسوة وتستمر دائرة العنف مفرغة وبلا نهاية؟
سادسا: كيف سيكون الأداء الاقتصادى للنظام خلال هذا العام؟ حتى الآن يميل الرئيس إلى سياسة المشروعات الكبرى والأرقام التجميعية المبهرة وهو ما ثبت محدودية تأثيره النفسى والمعنوى والذى يستمر عادة لأيام قليلة ثم تنتهى الاحتفالات بمزيد من الأسئلة التى لا تجد إجابات محددة. فهل سيتمكن النظام بالفعل من إشعار المواطن بتحسن نسبى تدريجى فى حياته الاجتماعية والاقتصادية؟ أم ستستمر المعاناة على الأرض مع أرقام مبهرة على المستوى الرسمى؟ وكيف سيكون رد فعل الشارع حين إذ؟
سابعا: هل تتمكن القوى المدنية من تحقيق تحالفات تكسر بها معادلة محاصراتها واستبعادها؟ حتى الآن التيارات الثورية والليبرالية واليسارية محاصرة بقوة بسبب ضعف تنظيماتها ومحاصرتها بكل السبل من ناحية السلطة. فهل تتمكن هذه القوى من تحقيق تكتل ضاغط على السلطة لإجبارها على تقديم تنازلات أم تستمر فى تشرذمها؟ هل تأخد موقفا موحدا من الانتخابات ومن قضايا حقوق الإنسان والحريات والمجتمع المدنى؟ قدرة هذه التيارات على إجبار السلطة على تقديم تنازلات أو استسلامها للأوضاع الراهنة سيكون محددا لملامح العام الثانى أيضا.
ثامنا: هل يستمر دعم البيئة الإقليمية والدولية لنظام الحكم المصرى؟ يحصل النظام المصرى حتى الآن على ثلاث دعائم كبرى من المحيط الإقليمى والدولى، الدعامة الأولى من وجود داعش وغيرها من عصابات الإرهاب التى تؤكد من ناحية أهيمة دور الجيش المصرى فى حماية البلاد من التفكك كما حدث لبعض دول الجوار، ومن ناحية ثانية فهى تؤكد دور مصر فى محاربة الإرهاب بالنيابة عن القوى الإقليمية بل والدولية كما يروج النظام، أما الدعامة الثانية فتأتى من الدعم الخليجى غير المسبوق لمصر والذى ساهم بقوة فى استقرار مصر بعد ٣٠ يونيو حتى لو كان هذا الاستقرار فى حده الأدنى. ثم تأتى الدعامة الثالثة والمتمثلة فى رهان القوى الدولية على مصر باعتبارها رمانة ميزان الاستقرار فى المنطقة ومن هنا دعم نظامها اقتصاديا حتى لو على حساب الديموقراطية وحقوق الإنسان. فهل تستمر هذه الدعائم أم ستتغير بعضها أو كلها نتيجة لتغيرات مفاجئة فى الحسابات الإقليمية أو الدولية؟
•••
إن الإجابة على التساؤلات الثمانية الأخيرة من شأنها تحديد ملامح مصر خلال العام الثانى من حكم الرئيس، بحيث أننا سنكون أمام ثلاثة احتمالات. الأول أن نكون أمام عام الانفراجات السياسية التى تأتى إما نتيجة لقيود إقليمية ودولية أو نتيجة لتغير مفاجئ فى إدراك صانع القرار، أو نتيجة لأثمان سياسية لا يمكن تحملها داخليا ومن هنا نشهد انفراجة نسبية فى المشهد مع تغير بعض الأشخاص دون تغير السياسات جذريا، أو أن نعود فى احتمال آخر إلى سياسات مبارك، حيث يظهر ظهير سياسى جديد للرئيس يتمكن من التحكم والضبط وإدارة العلاقات الزبائنية مع المجتمعات المحلية وكذلك التحكم فى البرلمان ومن بعده المحليات ومن ثم نشهد عودة إلى ديكتاتورية مبارك المرنة التى تسمح ببعض الحراك المحدود والتعددية المقيدة، أو نتجه إلى احتمال ثالث تفلت الأمور فيه عن سيطرة الجميع ونتجه إلى سيناريوهات كابوسية بها احترابات أهلية وفوضى عارمة، أو أن تستمر ببساطة السياسات الحالية على حالها مع مزيد من التضييق والضغط والتأميم مدعومة إقليميا ودوليا مع مزيد من العسكرة المصبوغة دينيا.
أعتقد أن الاحتمالين الأول (انفراجة نسبية مع تغير الأشخاص لا السياسات) أو الرابع (عسكرة دينية محافظة) هما الأقرب خلال العام الثانى من التحقق، لكن تظل الاحتمالات الأخرى قائمة. وفى تقديرى، فإن ملامح هذه الاحتمالات جميعا ستتشكل بعد افتتاح التفريعة الجديدة لقناة السويس مطلع أغسطس المقبل التى ربما تكون آخر الاحتفالات الكبرى وندخل بعدها مراحل أكثر جدية فى المحاسبة السياسية.
اقتباس
إن خبرة السنوات القليلة الماضية علمتنا درسا مهما وهو أن بناء سيناريوهات طويلة الأجل فى أوضاع سياسية رخوة كتلك التى تعيشها مصر هو إضاعة للوقت والجهد فيما لا يفيد.