دعيت كثيرا للتعقيب على قرار الجمعية العامة للشركة القابضة للصناعات المعدنية بتصفية شركة الحديد والصلب المصرية. استشعرت الحرج فى الإدلاء بأى تعقيب حتى لا يساء فهمه، فلم أكن حينها رئيسا أو حتى عضوا بتلك الجمعية العمومية، وقد اخترت أن أبتعد عن مشهد قيادة الشركة القابضة قبل صدور هذا القرار بعدة أشهر، وأعلنت استقالتى واضحة للجمهور وذلك بعد أن أمضيت شهرين لنقل المهام والاختصاصات لمن اختير لخلافتى فى سرية ومهنية تامتين. كذلك تصوّرت أن بياناتى الصحفية ومداخلاتى البرلمانية بل ومقالاتى السابقة تقرأ فى سياق متصل، وأن اللائذ بمصادرها المنشورة لن يجد تضاربا أو نقصا متعمّدا، ولن يعجزه الوقوف على رؤيتى للتطوير والخطوات التى اتخذتها والمسارات التى سلكتها فى سبيل ذلك طوال مدة اضطلاعى بالمسئولية خلال الفترة من مارس 2018 وحتى نهاية يونيو 2020.
لكن تيارا من الكتابات والمعلومات المنقوصة أو الخاطئة أو التى غلبت عليها العاطفة باتت مصدرا سهلا لأصحاب الذاكرة الانتقائية، والواثبين على الاستنتاجات، فوجدت من واجبى أن أضع القارئ الكريم فى موقع يسمح له بالإطلال على مشهد النهاية لتلك الشركة الوطنية ذات التاريخ العريق، وذلك دون ترجيح قرار أو النيل منه، ودون تلبيس الحقائق بما تأباه نفسى ويعزف عنه ذوو الألباب. فليس من المجهد أن يكتشف القارئ أن تصفية شركة القومية للأسمنت مثلا لم يكن قرار الشركة القابضة المعدنية، لأنه من المعلوم أنها تابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية!.
***
شركة الحديد والصلب المصرية ليست الأقدم بين شركات الصلب فى مصر فقد سبقها كل من شركات الدلتا والنحاس والأهلية (أبو زعبل) وكلها تابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية. أما شركة الأهلية فقد صدر قرار تصفيتها منذ نهاية التسعينيات، وقد استلمت الشركة فى عام 2018 وهى مازالت تحت التصفية خالية من العاملين ومن أية خطوط صالحة للإنتاج أو البيع كخطوط قابلة للتشغيل! وقد مرت طوال تلك الفترة الزمنية الطويلة بمحاولات متعددة لبيعها أو إحيائها أو تطويرها وباءت كل المحاولات بالفشل، بل وتحوّلت المنطقة إلى محيط سكنى يصعب معه إقامة أى نشاط مثيل فى المستقبل. وبدا أن هناك من يستفيد من بقاء أشلائها على هذا النحو، فهى أطنان من الخردة والكابلات المردومة ومحطة للكهرباء وأراضٍ فضاء تغرى بالتعدى عليها.. تعددت العراقيل أمام إتمام أعمال التصفية فى السنوات الأخيرة لكن تم تغيير المصفى والتفاهم مع وزارة المالية وهيئة قضايا الدولة حتى تكتمل ملامح تصفية الشركة على النحو السابق اتخاذ قرارات به منذ زمن! فتسترد وزارة المالية والدائنون مستحقاتهم من الشركة خاصة، بعدما أمكن تحويل استخدام أرضها إلى الغرض السكنى، ولأول مرة تنجح مزادات عامة لبيع الكتل المهملة فى الشركة والتى كانت تعيق استغلال الأرض، بل وتحول دون إعادة أرض النادى لخدمة أهالى المنطقة.
الدلتا للصلب بدورها كانت تمر بموقف صعب، فهى تنتج بالكاد ما يقرب من 40 ألف طن سنويا من المربعات وحديد التسليح، وألف طن من المسبوكات بخطوط متهالكة وتكلفة مرتفعة وعلى أراضٍ شاسعة يتم التعدى عليها باستمرار وعدم استغلالها بكفاءة. تم وضع خطة جريئة لرفع إنتاج الشركة إلى 500 ألف طن سنويا من المربعات، وعشرة آلاف طن من مسبوكات الصلب والزهر وقام الإعلام بتغطية افتتاح المرحلة الأولى للمشروع، وبالفعل تم تخليص الأراضى من التعديات، وإعداد خطة لتمويل التوسعات بإيرادات استغلال نصف المساحة التى كانت عبارة عن أرض فضاء ومقالب مخلفات.
أما عن النحاس المصرية فقد تم تغيير الإدارة بها والاستعانة بكفاءات من القطاع الخاص وتحوّلت نتائج الشركة ــ التى تعانى مشكلات كبيرة فى توفير خردة النحاس وإنتاج مبخرات للثلاجات عفا عليها الزمن ــ إلى منحنى لخفض الخسائر بعد الاستعانة ببيت خبرة سويسرى لتطويرها مع عدد من الشركات الشقيقة ومنها شركة المطروقات التى حققت أرباحا لأول مرة فى تاريخها منذ إنشائها!.
لكن شركة الحديد والصلب المصرية بقيت الشركة الأكبر والأهم من حيث اعتمادها على خام الحديد فى تصنيع تشكيلة كبيرة من المنتجات من مربعات وحديد تسليح وقضبان... ومن حيث حجم إنتاجها الذى بلغت طاقته التصميمية 1.2 مليون طن سنويا، ومن حيث التشابكات الأفقية والرأسية مع عدد كبير من الشركات الشقيقة، ومن حيث حجم العمالة الذى تراجع على مدار السنوات مع تراجع الإنتاجية وتغير تكنولوجيا الإنتاج... وعوامل أخرى حتى زاد قليلا على 7 آلاف عامل قبل قرار التصفية.
الشركة تمتلك آلاف الأفدنة وعددا من المناجم والمحاجر والمعدات والخردة والكفاءات... لكنها كانت تمر بظروف مالية غاية فى الصعوبة، وتنتج بحوالى 11% من طاقتها الإنتاجية، نظرا للارتفاع الشديد فى تكاليف الإنتاج، وكثرة التوقفات الفنية، وانخفاض تركيز الخام، وهدر الطاقة وفحم الكوك الذى يصنع من فحم حجرى مستورد بالعملة الصعبة (وليس موجودا فى مصر لا فى المغارة ولا غيرها كما يظن البعض). وكان من الطبيعى أن يتخذ قرار حاسم للتعامل مع هذا النزيف، على أن إيقاف النزيف بصورة جادة كان يأتى فى صورة طفرات ومحطات. هناك محطة فى 2008 وأخرى فى 2015 وقبلهما كانت هناك جهود مشكورة لإقالة الشركة من عثراتها المتعددة، لكن المشكلة كانت تكمن فى أن الحلول المقترحة ظلت تسير فى مسار واحد مداره «كيف نطوّر المصنع (وليس الشركة) ونعيد تأهيل الآلات؟» والعقبة الوحيدة هى توافر التمويل وبالفعل قدمته الدولة غير مرة، لكن ظل السؤال الأهم مهجورا وهو: «كيف نضمن ألا تبتلع تكاليف التطوير فى ثقب أسود؟ وأن تتآكل فى دورة إنتاج واحدة أو أكثر؟» بتعبير آخر: «كيف نضمن استدامة الوضع المالى والمؤسسى «للشركة» بعيدا عن حاضنة الدولة؟».
هذا السؤال هو الذى شغلنى طوال فترة رئاستى للشركة القابضة للصناعات المعدنية، بل وقبل ذلك ببضعة أشهر حينما كنت عضوا منتدبا ماليا للشركة القابضة، وهو الذى حملنى على المضى فى مسارات ثلاثة للتطوير: أولا مسار تسوية المديونيات التاريخية وحل النزاعات والتشابكات مع مرافق الدولة والبنوك. ثانيا مسار تركيز الخام وإنتاج مكورات الحديد التى يتم استيرادها من الخارج بما يرد الشركة إلى سيرتها الأولى عندما كانت معنية باستخراج الحديد من مناجم أسوان قبل تركها والانتقال إلى مناجم الواحات. ثالثا مسار التطوير الفنى لإمكانات وتكنولوجيا الشركة وتأهيل العمالة... مع تحسين استغلال أصول الشركة وخردتها المنهوبة على مدار السنين ووقف مصادر الهدر عبر بدائل lean management لتصبح مصدرا لتمويل الإنجاز فى تلك المسارات، دون إثقال على خزانة الدولة.
كان علينا إذن فى غيبة المعلومات الموثوقة وأنظمة إدارة الموارد وشبهات الفساد الذى كان غالبية عمال الشركة يلفظونه باستمرار أن نختزل سنوات من المحاولات والإخفاقات فى أقل من عام! حتى نبنى استراتيجية التحديث على أسس سليمة، ولذا كان من الأهمية بمكان أن نستعين بشركة تاتا ستيل لرسم خطة تطوير المصانع، وبقيادات جديدة فى مجلس الإدارة، وغنى عن البيان أن المجلس الأخير للشركة الذى تم تعيينه إبان رئاستى للقابضة وحتى قرار فصل شركة الحديد والصلب إلى شركتين قد خفّض الخسائر بأكثر من 55% فى عام واحد لأول مرة. وغنى عن البيان أيضا أن الشركات القابضة لا ينبغى لها أن تتدخل فى أعمال الإدارة اليومية للشركات التابعة، وأن صلاحياتها فى تغيير مجالس الإدارات واتخاذ قرارات هيكلية فى الجمعيات العمومية هما أداتها الأبرز لتحقيق أى إصلاح. ومن المهم أيضا ألا ننظر إلى أداء الشركة المالى من خانة الأرباح والخسائر فقط، إذ إن شركات كثيرة لا تدفع للدولة استهلاك الغاز والكهرباء عابثة ببيانات للمديونية فى الدفاتر غير مصادق عليها من الجهة الدائنة! ولا تدفع للشركات الشقيقة تكلفة المواد الخام التى تشتريها بأعلى من سعرها السوقى (على الورق) حتى يربح البائع ظاهريا وتتراكم مديونيات المشترى بالمليارات ثم يزعم أنه تمكن من دفع الرواتب وتخفيض الخسائر!
بل إن هناك سنوات مالية حققت فيها شركة الحديد والصلب أرباحا لم يعترف بها الجهاز المركزى للمحاسبات وكان لابد لكى تعتمد الميزانيات فى أعوام لاحقة أن يتم تحميل السنوات بخسائر متراكمة أكلت أية أرباح مفترضة، ولم ينتبه إلى ذلك غير قلة من المختصين.
***
لكن شركة الحديد والصلب التى حققت الخفض الأخير فى خسائرها هى شركة مختلفة عن تلك التى استلمناها فى 2018. فهى مازالت متعثرة وتجد صعوبة فى تدبير رواتبها الشهرية التى تناهز 47 مليون جنيه، لكنها تقر فى قوائمها بالسعر السوقى للمتر مكعب من الغاز الطبيعى وتسدد به جانبا أكبر من فواتيرها. وهى شركة موقعة على تسويات مديونيات مع شركتى الغاز والكهرباء تزيد على خمسة مليارات جنيه، وهى شركة تسدد لشركة النصر للكوك ثمن شحنات الكوك بسعر السوق، وخفضت بالفعل من حجم مديونيتها لديها على نحو ملحوظ. كما أنها تخلصت من حكم يقينى بالحجز عليها من قبل بنك مصر بعد تسوية مستحقاته لديها كاملة بصفقة يعلمها الجميع، لم تكلف الشركة جنيها واحدا نقدا وتمت بقيمة تقترب من نصف المديونية.
الشركة التى كانت فى 2018 تتعثر فى مناقصة للتطوير لم تتحدد مصادر تمويلها والتى كانت تقدّر بعدة مليارات قبل التعويم!، ولم توافق أى جهة على تمويلها وتعددت بها مخالفات فض المظاريف ونظام التقييم حتى حرص على إلغائها ثلاثة وزراء متعاقبين! أطلقت بعد ذلك دعوات للشراكة والتطوير بشروط أكثر واقعية، ووقعت اتفاقيات لتركيز الخام وتصنيع المكورات، وأتمت تعاقدا لتأهيل إحدى الغلايات التى لولاها لأغلقت البيئة أبوابها على خلفية ردم حلوان بالتراب الأحمر عند تشغيل الأفران.
بحكم القانون فإن قرار استمرار الشركة وعدم تصفيتها هو الذى كان يتطلب جمعية عامة غير عادية من أجل إنفاذه، وقد صدر برئاستى أكثر من قرار للاستمرار. وظل هذا الاستمرار رهنا بنجاح مسارات التطوير التى لم أغادر موقع القيادة إلا بعد أن أتممت منها ما يرضى ربى وضميرى رغم التداخلات والتدخلات. وقد سوّيت مليارات المديونيات بأعلى تقييم للأراضى فى تاريخ حلوان، وشكّلت اللجان المتخصصة لخفض استخدام الغاز، وحل مشكلات مع شركات دائنة كان من الممكن أن نخسرها فى التحكيم، ووقعت اتفاقيات دولية وعقود مبدئية للمشاركة مع كبرى الشركات العاملة فى مجال تركيز الخام بأوكرانيا، والتى هى قوام الشركة المنفصلة حاليا. كما وقفت على رصيد الخردة الفعلى الذى عجزت اللجان المختصة عن تقديره إلا بعد التقطيع والبيع فعليا لإحدى الشركات المملوكة لجهة وطنية وبأعلى سعر فى البورصة. ورددت مخصصا بأكثر من 300 مليون جنيه على خلفية التسوية مع بنك مصر، كان من المفترض أن تزيد على مليار وثلاثمائة جنيه لو أن سعر الصرف والفوائد المتراكمة أخذت فى الاعتبار، وكان لعدم أخذه فى الاعتبار إجراءات تصحيحية ساندنى فى إنفاذها المستشار المحترم رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات الذى قابلته خصيصا لهذا الغرض. وقد كان رد هذا المخصص من أهم أسباب تراجع خسائر الشركة فى العام الأخير وهو تراجع حقيقى وليس وهميا إذ انعكس بالإيجاب على حقوق الملكية وموقف الشركة المالى. ولو أن المخصص كان مقدّرا بشكل صحيح لحققت الحديد والصلب أرباحا سنوية فى هذا العام، الذى حققت فيه شركتان للصلب مملوكتان لرجل صناعة شهير خسائر سنوية قدّرت بنحو 8 مليارات جنيه.
وهناك الكثير الذى سوف نفرد له مقالات أخرى لكنها جميعا جهود لا ينبغى أن تتخذ مبررا لتصفية شركة أو استمرارها، هى جهود حتمية لإفاقة وإنعاش شركة كانت على جهاز التنفّس، وهى جهود تثبت أن النية لم تكن معقودة أو مبيّتة لاتخاذ القرار السهل بالتصفية، وهى ضرورية سواء اتخذ القرار بتطوير الشركة واستمرارها أو بتخفيض حجم العمالة والاكتفاء بعدد من الأنشطة والمنتجات التنافسية، أو تقسيم الشركة، أو حتى تصفيتها... وللحديث بقية.