وصل الرئيس الجديد، وما أن انتهى من طقوس تولى السلطة حتى أصدر تعليماته إلى رجال الأمن فى جميع أنحاء البلاد وبخاصة فى العاصمة بتنفيذ إرادة الشعب الذى فوَض الرئيس المنتخب تخليص البلاد من شرور المخدرات. لم تتأخر قوات الأمن التى وجدت فى تعليمات الرئيس فرصة للتخلص من العناصر المعارضة وخصوم الأمن الداخلى، ففى أقل من شهرين من تولى السيد رودريجو دوتيرتى مهام السلطة فى الفلبين، جرى إعدام دون محاكمة، كثيرين من المشتبه فى ممارستهم تجارة المخدرات، وكذلك من المدمنين. تجاوز العدد حتى أيام قليلة سبقت كتابة هذه السطور رقم 2500 شخص مات بعضهم على أيدى رجال الأمن ومات البعض الآخر بأيدى آخرين، إذ لم ينسَ الرئيس دعوة المتطوعين من أبناء الشعب ومن سائقى التوك توك وهم أصحاب النفوذ المتزايد فى الأحياء الشعبية، وهم فى الوقت نفسه الأقرب إلى المدمنين والأدرى بمواقع التوزيع ومنازل الموزعين، دعاهم للمشاركة فى حملة تصفية التجار والمدمنين. بنهاية الشهرين، كان عدد المعتقلين قد وصل إلى عشرة آلاف واستسلم مواطنون عاديون بأعداد غفيرة خوفا من إعدامهم حتى تجاوز عددهم 675.000 شخص لم تستوعبهم طاقة السجون.
***
سكتت صحف جنوب شرقى آسيا والصحف الناطقة بالعربية ونطقت بغضب غير مؤذٍ بعض صحف الغرب. تحدث رسميون غربيون تقدمهم المستر بان كى مون، بصفته الأمين العام للأمم المتحدة. أثار انتباهى أنه على الرغم من نعومة الانتقادات الغربية أطلق الإعلام الفلبينى والمتحدثون الحكوميون فى مانيلا، قذائف من أثقل الأعيرة النارية ضد الغرب وصحافته وشخصياته السياسية. بل وأثار الاهتمام بشكل خاص اختيار رئيس الدولة منبر القوات المسلحة الفلبينية، للرد على السيد بان كى مون. هناك توجه بالسؤال التالى لقادة الأسلحة «أى جريمة ضد الإنسانية يتحدثون عنها». ثم توقف قليلا قبل أن يستطرد «سأكون صريحا معكم، هل مدمنو المخدرات بشر؟»، وأنهى رده على الأمين العام للأمم المتحدة بتحذيره من أنه إذا استمر ينتقد سياسة بلاده فسوف يعلن انسحابه من المنظمة الدولية.
***
لم يكن الأمين العام للأمم المتحدة الهدف الوحيد للرد من جانب المسئولين فى الفلبين. كانت بعض رموز الولايات المتحدة هدفا ثانيا. كان غريبا أن يسلط الرئيس الجديد نيران غضبه على السفير الأمريكى المعتمد فى مانيلا، ليتهمه فى خطاب عام بأنه «شاذ» جنسيا وابن عاهرة. كان جديدا أيضا بالنسبة لمن يعرف شيئا عن العلاقات بين الولايات المتحدة والفلبين أن يتعمد رئيس فلبينى إشراك سياسيين من الحزب الشيوعى وأحزاب قومية فى حكومته لا لشىء سوى أنهم كأشخاص عرفوا بمعارضتهم للسياسات الأمريكية وللتدخل الأمريكى فى شئون بلادهم. أما القشة التى فجرت الموقف بين واشنطن ومانيلا فكانت حين اشتبك الرئيسان الأمريكى والفلبينى علانية، أحدهما يؤجل زيارته المقررة سلفا والآخر يذكره بأن الفلبين دولة مستقلة ولم تعد مستعمرة أمريكية، قالها بلهجة سوقية وساخرة.
أسأل نفسى كثيرا هذه الأيام، هل كان ضروريا أن يأتى رئيس من خارج دائرة النخبة أو الطبقة السياسية ليتولى إدارة حملات هجوم منظمة ضد الولايات المتحدة، ثم هل ما يزال ضروريا إعادة التعبئة المعنوية لأفراد جيوش كانت على مدى عقود حليفة للولايات المتحدة ودائبة التواصل معها عسكريا ومعتمدة على معوناتها وتدريباتها؟ أرى فى تركيا وفى الفلبين وفى مصر، وربما فى المملكة العربية السعودية بوضوح أقل، حملات إعلامية ضد الولايات المتحدة وكلها بدون استثناء دول وثيقة الصلة بخطط أمريكا العسكرية. كذلك أسمع وباستغراب شديد انتقادات علنية لاذعة للولايات المتحدة من مسئولين فى جميع مراتب السلطة. كنا نراقب تناغم كثير من التصريحات العربية مع تصريحات المسئولين الروس حول أمور أمريكية محل انتقاد، ولكن لم نتوقف طويلا أمام سياسات بدأت تأخذ شكل وسمات الظاهرة إلا حين خرج علينا الرئيس الجديد للفلبينيين بحملته الضارية ضد الولايات المتحدة.
***
أما الظاهرة فمكوناتها البادية لنا هى كما يلى: دول أغلبها فى مرحلة انتقال أو أزمة داخلية أو تتعرض لتهديد حقيقى أو مبالغ فيه لأمنها وسلامتها وربما لوحدة أراضيها. أنظمة حكم أغلبها يفتقر إلى قاعدة حزبية ثابتة أو راسخة وإلى بديل معتبر من القيادات السياسية المخضرمة والواعية، أنظمة لا تمتلك بشكل قاطع ناصية القيادة الإقليمية أو العقائدية أو الدينية، أو كانت تمتلكها وفقدتها، حكومات تمارس بمبررات متباينة كمكافحة الإرهاب أو المخدرات ومثل إعادة بناء الدولة أعمالا غير شرعية وخارج إطار الدساتير المحلية والمبادئ الدستورية، أنظمة حكم تستمر فى الشكوى من الفساد ولكنها تعامله برقة متناهية وعطف واضح، حكومات تعتمد كليا على قوى الأمن وتستخدم القمع فى معظم جوانب علاقات المواجهة والثقة المفقودة بين الدولة الشرطية والعسكرية من ناحية ومنظمات وفكرة المجتمع المدنى من ناحية أخرى، لذلك لجأ أغلبها إلى استخدام قوى الأمن الموازى ممثلا فى قطاعات البلطجية وذوى السوابق وفرق أطلقوا عليها فى أكثر من دولة صفة «المواطنين الشرفاء»، هؤلاء مثلا شجعهم الرئيس دوتيرتى الفلبينى بالتوجيه التالى: «اذهبوا فاقتلوهم وأنا أمنحكم النياشين».
***
الظاهرة تنتشر: قادة يحكمون باسم الشعوب. لا واسطة بين القادة والشعوب. لا برلمان حقيقى ولا أحزاب سياسية حقيقية ولا نقابات أو اتحادات صناعية مستقلة ولا دساتير أو قوانين يحتكم إليها بصدق واحترام. إنه النمط الوحيد من الديمقراطية الذى تحترمه هذه الأنظمة وهؤلاء القادة. الشعب هو السيد صاحب الحق فى التفويض وصاحب الحق فى سحبه ولا سلطة أخرى لها هذا الحق. أليس هذا ما يقوله ويردده بلا كلل عدد من رؤساء أمريكا الجنوبية نعرفهم بالاسم والممارسة، أليس هذا ما يقوله ويردده الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الفلبينى المنتخبان ديمقراطيا. أعترف أننى صرت أشك فى أن السيد مودى رئيس وزراء الهند قادر على، أو راغب فى، منع انقياد أكبر ديمقرطية برلمانية فى العالم نحو تبنى الظاهرة الشعوبية. أليس هذا هو النظام الديمقراطى الذى يبشر به السيد دونالد ترامب المرشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
***
لن أكون أول ولا آخر من يرى الظاهرة الشعوبية بوضعها المتفاقم مثل عاصفة تتجمع سحبها عند الأفق تستعد للحظة الهجوم على معاقل الديمقراطية المتبقية، وبعدها نعيش فى عالم من دول بالعشرات يرأس كل منها دونالد ترامب مستنسخا وتسير على هدى السيد رودريجو دوتيرتى وأقواله ومنها قوله الذى قاله قبل انتخابه رئيسا للفلبينيين وصار قولا مأثورا «إذا انتخبونى رئيسا فلن يوجد فى الفلبين فى عهدى ما يسمى تطهير غير دموى».
اقتباس
الظاهرة تنتشر: قادة يحكمون باسم الشعوب. لا واسطة بين القادة والشعوب. لا برلمان حقيقى ولا أحزاب سياسية حقيقية ولا نقابات أو اتحادات صناعية مستقلة ولا دساتير أو قوانين يحتكم إليها بصدق واحترام.