الطبقة الوسطى - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 3:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطبقة الوسطى

نشر فى : السبت 7 نوفمبر 2020 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 7 نوفمبر 2020 - 7:55 م

الطبقة الوسطى مصطلح حديث، ظهر فى مصر فى أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن العشرين. عرفت مصر الطبقات مثلها مثل باقى الدول والحضارات منذ أقدم العصور، ففى مصر الفرعونية كانت هناك طبقة الأمراء الذين ينتمون بصلات القرابة والدم مع الفرعون، وطبقة الكهنة، وطبقة الكتبة حافظى سر الكتابة الهيروغليفية المقدسة، وطبقة الحرفيين بناة المقابر والأهرام والمسلات والتماثيل والمعابد، وطبقة العوام. واستمر هذا التقسيم بعد الفتح اليونانى والرومانى مع فارق أن الطبقة الملكية صارت بطلمية يونانية ثم رومانية.
ومع الفتح الإسلامى وخاصة منذ زمن المماليك كانت الطبقات تتكون من المماليك المحاربين الذين استأثروا بالفروسية والجندية واحتكروا سلطة الحكم بالسيف، وكانوا أعاجم من غير أهل البلاد فانعزلوا تماما عن حياة الشعب، وإذا أردنا أن ننصفهم بعض الشىء فيمكن أن نرجع إليهم النهضة المعمارية متمثلة فى مجموعة من الجوامع الرائعة مثل جامع السلطان حسن وجامع مؤيد شيخ وقايتباى.. إضافة إلى الخانقاوات والبيمارستانات والمدارس.
وتأتى بعدهم طبقة العلماء وهم حفظة القرآن وحماة الشريعة والدين من رجال الأزهر الشريف، ثم طبقة كبار التجار الذين كان فى يدهم أمور التجارة والاقتصاد، ثم العوام من المطحونين الذين قامت على أكتافهم أعمال الزراعة والبناء، إلا أن تأثيرهم على الحياة كان معدوما.
استمر هذا الحال طوال فترة المماليك والفترة العثمانية دون أن تسهم أى من هذه الطبقات فى الارتقاء بالمجتمع، وانعزلت مصر عن العالم ودخلت فى مرحلة ركود طويلة خاصة وإن هذه المرحلة تزامنت مع عصر النهضة فى أوروبا وعصر رواج العلم والكشوفات الجغرافية، العصر الذى كان من نجومه كوبرنيكوس، وجاليليو، وإسحق نيوتن.
ثم كانت الصدمة مع حملة نابليون الاستعمارية على مصر وتولى محمد على الحكم وإدراكه أهمية العلم والانفتاح على العالم من أجل اللحاق بركب الحضارة وبناء الدولة القوية الحديثة، فأرسل البعثات إلى أوروبا وجلب الأوروبيين إلى مصر للاستفادة من خبرتهم، واستمر إسماعيل على نهجه وتكونت فى مصر جاليات أجنبية كثيرة أتوا إليها لينهلوا من خيرها.
***
يأخذ مفهوم الطبقة الوسطى اليوم مدلولا اقتصاديا، بمعنى أنها طبقة متوسطة الثراء تقع بين الفقراء والأثرياء، إلا أن الطبقة الوسطى يعد مصطلحا اجتماعيا حضاريا تنويريا قبل أن يكون مفهوما اقتصاديا.. فهى الطبقة التى أخرجت مصر من جمودها، وبدأت حركة التنوير الحديثة، وفتحت قنوات الاتصال مع العالم الخارجى لينهل الشعب المصرى من العلوم والفنون والفكر الحديث.
بدأ ذلك كله بالبعثات التعليمية التى أرسلها محمد على والخديوى إسماعيل، ولعل من المفارقات الملحوظة أن هذه البعثات التى كان من أبرز أعضائها الانجال، نسبة إلى الأمراء وأولاد الطبقة الارستقراطية، كان أكثر أعضائها نبوغا وتأثيرا فى المجتمع هم أولاد العوام مثل رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك ومحمد الملكى وإسماعيل الفلكى ومحمد مظهر.
كان لهؤلاء الرواد أثرا هائلا على المجتمع المصرى وصاروا نموذجا للشباب، فضلا أنهم كمتعلمين تعليما راقيا حديثا كانوا يتلقون مرتبات مجزية رفعت مستوى معيشتهم، فأصبح التعليم هدفا يصبو إليه من يريد أن يرتقى. وأسهم هؤلاء الرواد فى إشاعة التنوير بعلمهم وعملهم، فترجم رفاعة الطهطاوى العديد من الكتب وأنشأ مدرسة الألسون، وأسهم محمد الملكى فى تطوير العلوم الرياضية وعلم الفلك وإنشاء أول مرصد فى العباسية ووضع أول خريطة حديثة لمصر بأيد مصرية، وأسهم محمد مظهر فى تربية جيل من المهندسين المصريين الأكفاء، ولا يمكن إغفال دور أحمد كمال باشا وسليم حسن فى إحياء علم المصريات ودراسة الحضارة الفرعونية مما كان له فضل فى إحياء الشعور الوطنى المصرى والاعتزاز بالتاريخ المجيد.
كان للتعليم المدنى الحديث الدور الرائد فى تكوين طبقة جديدة مستنيرة منفتحة على العالم وعلى المعرفة لها الفضل فى نقل المعارف والتأثير على المجتمع وإيقاظه من سباته وركوده، وكانت أول هذه المدارس مدرسة الألسن التى أسسها رفاعة الطهطاوى عام 1835، ثم مدرسة دار العلوم التى تأسست عام 1872، ثم الجامعة المصرية التى تأسست عام 1900 وتغير اسمها إلى جامعة فؤاد الأول عام 1940 ثم إلى جامعة القاهرة.
***
واستمرت الطبقة الوسطى تنمو ويتعاظم تأثيرها على المجتمع فكان منها؛ سعد زغلول، ومصطى النحاس، ومحمود النقراشى، وجمال عبدالناصر، الذين لعبوا أدوارا محورية فى الحركة القومية وحركة التحرير الوطنى، ومنهم طلعت حرب مؤسس بنك مصر، ود/ مصطفى مشرفة العالم الذرى المصرى الفذ، وطه حسين المجدد فى الفكر وفى الأدب.
وأنجبت الطبقة الوسطى النساء اللائى قدن حركة النهضة النسوية من أمثال نبوية موسى وملك حفنى ناصف وسعيدة عبدالرحمن أول محامية مصرية وعالمة الذرة الفذة سميرة موسى.
كل هؤلاء من أبناء الطبقة الوسطى هم بناة مصر الحديثة وهم رواد التنوير والحداثة، فكانت الطبقة الوسطى هى الطبقة الدافعة لتقدم المجتمع ولم تكن أبدا طبقة تقع بين المترفين والمعدمين، لم تكن صاحبة سلطة أو صاحبة مال، ونجحت فى إحداث هذا التغيير دون سيف المعز وذهبه.
***
إذا نظرنا اليوم إلى ساحة المجتمع لا نجد طبقة لها عطاء مماثل لعطاء الطبقة الوسطى منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر إلى حتى العقد السابع من القرن العشرين، لدينا طبقة ثرية متخمة مشغولة بإظهار ثرائها منعزلة عن المجتمع لا تتفاعل معه وطبقة مطحونة تعيش على حافة المجتمع مشغولة بتوفير أساسيات الحياة، وأما ما بينهما فلم تعد الطبقة الوسطى مميزة بانفتاحها على العلم ومشغولة بتنوير المجتمع وإثرائه بعلمها، فالطبقة الوسطى العليا أضناها التكلفة الفلكية للتعليم الفعال وبدأ ذلك يقلص أعداد القادرين على تحمل أعبائه فأصبحت الوظائف المجزية تصبح حكرا على خريجى التعليم الخاص والدولى فى البنوك وشركات التأمين والأسواق المالية والشركات الدولية الكبرى والمناصب المميزة فى الدولة كالقضاء والسلك الدبلوماسى.
ولعل أخطر ما على الساحة هو حالة الانعزال التام بين طبقات المجتمع، فأبناء الطبقة العليا صاروا يدخلون نظم تعليمية تغربهم تماما عن باقى الطبقات وتعد نسبة كبيرة منهم للهجرة خارج البلاد، وعزلوا مسكنهم فى «كمباوندات» داخل أسوار لها بوابات تمنع دخول العوام، ويرفهون عن أنفسهم بمعزل عن باقى الشعب، فبعد أن كانت المصايف تتراوح طبقيا بين المنتزه وميامى والأنفوشى صارت تنقسم إلى الجزر اليونانية ومارينا والمصايف الجماعية للشركات.
نحن بحاجة أكثر من أى وقت مضى لطبقة وسطى بمعناها الحضارى والاجتماعى، تقوم بدورها لوصل أجزاء المجتمع وتجمع أوصاله، وللعب دورها التنويرى لدفع المجتمع إلى الأمام.

عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات