«حرب الاستنزاف» حرب مظلومة، فلم تنل حتى الآن تسليط الضوء الإعلامى الواجب على رجالها الذين رفضوا الهزيمة فى 5 يونيو 1967، وأصروا على الثأر للرجال الذين لم تتح لهم الفرصة الحقيقية للقتال، وربما يكون الفريق عبدالمنعم رياض الاستثناء، فقد نال الشهرة الأوسع وسط قادة تلك الحرب العظام، وجسد استشهاده فى (9 مارس 1969، الذى يصادف اليوم)، المعنى الصادق للتضحية والعطاء، وبذل النفس من أجل الذود عن تراب هذا الوطن، والدفاع عن كرامة ابنائه.
فى خضم الصراع العسكرى مع العدو الإسرائيلى الذى تلا هزيمة 5 يونيو، وكما يذكر المشير محمد عبدالغنى الجمسى فى مذكراته: «افتتحت مرحلة حرب الاستنزاف فى 8 مارس 1969، بقصف مركز من المدفعية المصرية ضد تحصينات ومواقع العدو التى أقامها الجنرال حاييم بارليف، رئيس الأركان الاسرائيلى، على الضفة الشرقية للقناة. استمر الاشتباك لقرابة خمس ساعات، تمكنت فيها القوات المصرية من تدمير جزء من مواقع العدو، وإسكات بعض مواقع مدفعيته».
صبيحة اليوم التالى (9 مارس) سارع الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس الأركان، إلى الجبهة «ليشاهد بنفسه» نتائج قتال اليوم السابق، وكى يكون وسط جنوده على الخطوط الأمامية المقابلة للموقع 6 على الضفة الشرقية لقناة السويس عند الاسماعيلية، فى واحدة من أصعب المراحل القتالية لاستنزاف العدو، تحقيقا لهدف مصر بترسيخ قناعة لدى إسرائيل بأن بقاءها فى سيناء سيكلفها ثمنا غاليا.
كان قائد الموقع الإسرائيلى، على الجانب الآخر من القناة، حسب المراسل العسكرى الشهير، عبده مباشر، فى كتابه عن حرب الاستنزاف، «قد لاحظ مجموعة من سيارات الجيب تتجه إلى الموقع المصرى بالقرب من حافة القناة، فاستنتج أن هذه الزيارة يقوم بها عدد من كبار القادة، فأصدر أوامره للمدفعية بتوجيه نيرانها إلى هذه السيارات بدلا من المواقع التى كانت مستهدفة»، ليسقط الفريق عبدالمنعم رياض شهيدا فى الخمسين من عمره، فهو من مواليد 22 أكتوبر 1919.
وعقب مرور أربعين يوما على استشهاد الفريق رياض (19 إبريل 1969) قامت المجموعة «39 قتال»، التى أرهقت العدو بهجماتها الجريئة، بعملية نوعية، ثأرا للشهيد، حيث عبرت القناة الساعة السابعة والنصف مساء، واقتحمت الموقع الإسرائيلى أمام بحيرة التمساح، وسيطرت عليه سيطرة كاملة لمدة ساعتين، ولم تتركه إلا بعد قتل وإصابة 30 ضابطا وجنديا إسرائيليا.
التضحية فى أشرف الساحات، ساحة الدفاع عن الوطن، هى ذاتها التى كرمها الشعب المصرى بجنازة تليق بالأبطال من قامة الفريق عبدالمنعم رياض الذى تحول يوم استشهاده إلى يوم للشهيد تحتفل به مصر كل عام، للتأكيد على «روح العسكرية المصرية»، حيث يتحول القادة إلى قدوة باستشهادهم وسط جنودهم فى ميادين القتال.
عبدالمنعم رياض، إذن، ليس اسم ميدان ينتصب فيه تمثال لرجل بزيه العسكرى على بعد خطوات من نيل القاهرة، ولا مجرد رقم مهم فى سجل العسكرية المصرية المشرف، بل هو واحد من أنبل القادة الذين جاد بهم الزمان على بلد يرفل فى صناعة المجد على مدى آلاف السنين منذ عهد الفراعين العظام، أحمس، ورمسيس الثانى، وحتى يومنا هذا الذى نحتفل فيه بيوم الشهيد.
وأختم بمقطع من قصيدة الشاعر الكبير نزار قبانى فى رثاء الفريق عبدالمنعم رياض، عليه رحمة الله ورضوانه.
يقول نزار:
«يا أشرفَ القتلى، على أجفاننا أزهرتْ..
الخطوةُ الأولى إلى تحريرنا
أنتَ بها بدأتْ..
يا أيّها الغارقُ فى دمائهِ
جميعهم قد كذبوا.. وأنتَ قد صدقتْ..
جميعهم قد هُزموا
ووحدكَ انتصرتْ.