الحرب والسلام - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 4:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحرب والسلام

نشر فى : الجمعة 8 أبريل 2022 - 8:25 م | آخر تحديث : الجمعة 8 أبريل 2022 - 8:25 م

لدى حساسية تجاه الأفلام السينمائية القائمة على أعمال أدبية شهيرة، فدائما أجد العمل السينمائى متقزما أمام العمل الأدبى وعاجزا عن نقل روحه.

لعل من الاستثناءات القليلة لهذه الحساسية فيلم «الحرب والسلام» الذى أنتجه الإيطاليان دينو دى لورنتس وكارلو بونتى (زوج صوفيا لورين) فى عام 1956 عن رائعة الأديب والفيلسوف الروسى ليو توليستوى. من إخراج الأمريكى كينج فيدور وتمثيل نخبة من أشهر نجوم هوليوود، منهم أودرى هيبورن فى دور ناتاشا روستوفا المراهقة البريئة ابنة الأسرة الارستقراطية التى تعانى من الضغوط المالية، وميل فرير فى دور الأمير أندريه بولكونسكى الوسيم ابن الأسرة المحافظة إلى درجة التزمت والضابط الباسل فى الجيش وهنرى فوندا فى دور بيير الابن غير الشرعى للكونت الثرى كيريل الذى يعترف به أخيرا على فراش الموت. 

ونجح الفيلم فى تصوير قسوة وبشاعة الحرب، فهو يبدأ بمشهد لفتاة حالمة تراقب من شرفة بيت الأسرة ثلة من ضباط وجنود الجيش الروسى وهم سائرون للحرب بملابسهم الزاهية المرصعة بالذهب وسيوفهم البراقة، يسيرون على أنغام المارشات الحماسية تحت الأعلام التى تهفهف فى الهواء. فى الجيش كلهم شباب وفتوة وقوة يسيرون بخطواتهم الواثقة. وينتقل المشهد إلى الحفلات الراقصة فى حالات قصر أسرة روستوف والفتيات الحسان يراقصن الضباط ببزاتهم العسكرية وأنواطهم ونياشينهم البراقة ويتبادلون الأنخاب وسط الموسيقى الصادحة. ثم يحدث الغزو الفرنسى لروسيا ونرى الضغوط الشديدة التى يتعرض لها قائد الجيش الروسى المارشال كوتزوف الذى يصر على الانسحاب أمام قوات نابليون حتى لا يتحطم الجيش الروسى ويضطر أخيرا للصمود للدفاع عن موسكو فتقع معركة بورودينو التى تعد أكثر معارك نابليون دموية ونرى معها الوجه القبيح للحرب ونرى الشباب الوسيم الذين كانوا يسيرون ببزاتهم الموشاة بالذهب كلهم قوة وفتوة وقد مزقتهم الحرب، تحمل العربات جثث القتلى والجرحى المبتورة أترافهم وترى الأمير الوسيم أندريه وهو يموت من جراحه بين أحضان الجميلة نتاشا. 

•••

وفى لقطة من أبلغ اللقطات نرى المارشال كوتزوف الذى قام بدوره باقتدار الممثل النمساوى أوسكار هومولكا وهو يسجد شاكرا لله بعد أن وصله أن القوات الفرنسية بدأت فى الانسحاب مع قدوم الشتاء والجليد. مشاهد الانسحاب الفرنسى تنقل قسوة الحرب ونحن نرى الغوانى الذين التصقوا بالغزاة وتجمدوا فى الجليد يرتدون معاطف الفراء الثمينة التى نهبوها وملئوا جيوبها بالمجوهرات لكنها لم تعصمهم من قسوة البرد. ثم ينتقل المشهد إلى الكونت بيير وقد أسره الفرنسيون ويعود ماشيا مع الأسرى وبجانبه الفلاح البسيط بلاتون كاراتييف الذى رغم أميته يتمتع بحكمة فطرية وإنسانية عميقة ونراه يقاسم بيير حبه لبطاطس يرش عليها ذرات من الملح ورغم المعاناة فلا تبدو عليه أى مظاهر للتذمر وقد قام بدوره الممثل البريطانى العبقرى جون ميلز. 

وفى الختام نرى مشهد عودة من بقى حيا بعد الحرب إلى بيت الأسرة الذى كان زاخرا بالسعادة والحياة وقد حولته الحرب إلى خرائب نسمع منها أصداء لأصوات من رحلوا أيام كانوا يمرحون ويلهون فى أرجائه. نجح الأديب العبقرى تولستوى والمخرج العبقرى كينج فيدور فى نقل قسوة ودموية الحرب والسلام كقيمة يجب أن نحافظ عليها. كان حكيما قد قال إن الحرب يشعلها كهول بحثا عن الأطماع والسلطة ليكون وقودها الشباب المثالى. تنشب الحرب بسبب أطماع قيصر روسيا فى الاستلاء على المضايق التركية لتصل أساطيله إلى المياه الدافئة أو بسبب أطماع قيصر ألمانيا فى الحصول على مستعمرات فى أفريقيا مثل بريطانيا وفرنسا أو بسبب رغبة إمبراطور اليابان السيطرة على منشوريا وكوريا أو بسبب رغبة ملك بريطانيا فى كبح جماح ألمانيا فى بناء أسطول يهدد سيطرة بريطانيا على المحيطات فتنشب الحرب وينتزع الفلاح من محراثه والحداد من لسندانه ومطرقته والراعى من قطعانه والتاجر من متجره تحت وهم أنه يحارب من أجل بلده وشعبه ودينه ليقتل شباب واعد نبيل لا يعرفه ولم يقابله لكنه عبء بكراهية غير طبيعية ضده. ولعل من القصص المأساوية عن قتلى الحرب قصة الشاعر الإنجليزى Wilfrid Owen الذى قتل وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره فى آخر يوم من الحرب العالمية الأولى وهو كاتب القصيدة الرائعة Dulce et Decorumest التى تصور بشاعة الحرب فى الخنادق وبعد الحرب بسنين نشر قصة حياته ومكان مقتله علق ألمانى عجوز «يا إلهى لقد كانت وحدتى فى هذا المكان فى ذلك اليوم، أرجو ألا أكون قد قتلت هذا الإنسان الرائع». 

وفى الحرب العالمية الثانية أقلع الكاتب والشاعر والفيلسوف Antoine de saint exuperie مؤلف قصة الأمير الصغير بطائرته فى مهمة استطلاعية فى عام 1944 واختفت الطائرة حتى وجد صياد قلادة فضية عليه اسمه خرجت من الأسماك فى شبكته أمام شواطئ فرنسا على البحر المتوسط وهبط الغواصون ووجدوا طائرة الأديب وبالبحث فى أرشيف سلاح الطيران الألمانى تم تحديد الطائرة التى أسقطته ويقودها الطيار Horst Ruper الذى أعرب عن حزنه الشديد؛ لأنه كان السبب فى موت هذا الفنان العظيم الذى يعشق أعماله.. إن الحرب لا تصيب المحاربين والجنود فقط بل الآلاف من العزل من النساء والشيوخ والأطفال وتتخذ معاناتهم مادة للآلة الدعائية للخصم فترى مندوبة الولايات المتحدة فى مجلس الأمن تكاد تذرف الدمع على الأطفال المحتشدين فى المخابئ فى أوكرانيا ليحتموا من القصف الروسى وقد نست أو تناست قصف الطائرات الأمريكية لملجأ العامرية فى بغداد التى أسفر عنه خمسمائة من الأطفال والنساء. 

•••

ومع صدمة خروج المارد النووى من القمقم ظهرت محاولة الحكماء والعلماء احتواء الخطر الذى تمثله أسلحة الدمار الشامل فكانت الرسالة التى أرسلها الفيلسوف برتراند راسل إلى العالم ألبرت أينشتاين يدعوه إلى جهد مشترك لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية فى بداية عام 1955. رحب أينشتاين بالمبادرة إلا أنه توفى بعد أسابيع وأصدر راسل فى يوم 9 يوليو 1955 النقاط التى تم الاتفاق عليها فيما عرف بإعلان راسل/أينشتاين Russel Einstien Manifesto الذى وقع عليه عدد من الحاصلين على جائزة نوبل ولوضع المبادرة فى إطار مؤسس اجتمع الموقعون على الوثيقة فى مدينة Pugwash الكندية فى عام 1955 ونشأت منظمة الباجواش التى عملت على إحلال السلام العالمى والتى حصلت على جائزة نوبل فى السلام عام 1995، فات على مؤسسى هذه المؤسسة النبيلة أن السلام لا يتحقق بالقضاء على سلاح الدمار الشامل بل بالقضاء على إنسان الدمار الشامل. وبمراجعة بسيطة للتاريخ نجد أن الدمار الذى أحدثه الرومان بقرطاج يفوق دمار القنابل الذرية، كما أن الدمار الذى ألحقه تيمور لنك ببغداد أمضى من أى أسلحة الدمار الشامل، فضلا عن قضاء الإنسان على حضارات كاملة فى العالم الجديد. إن السلام لا يمكن أن يسود طالما حكم الولايات المتحدة رجال يصرون على أن تكون بلادهم أقوى من العالم بأسره ويرغبون فى السيطرة ليس على العالم فحسب بل على النجوم مثلما أراد رونالد ريجان ببرنامج حرب النجوم، ولا فى وجود رؤساء مثل بوتين يريدون إحياء أوهام الإمبراطورية الروسية والسوفيتية، ولا أردوغان الذى يريد استنساخ الامبراطورية العثمانية، ولا شارون وبيجن ونتنياهو وأوهام إسرائيل الكبرى، ولا صدام حسين الذى أراد إحياء أمجاد العرب بغزو الكويت وقتل شعبها هؤلاء أمثلة لإنسان الدمار الشامل وغيرهم كثر. 

يظل أيضا السلام مهددا طالما عجزنا عن تعريفه عندما تمنح مؤسسة نوبل جائزتها لحفنة من أكثر المتعطشين للدماء والحروب مثل ونستون تشرشل وثيودور روزفلت وهنرى كيسنجر وأخيرا آبى أحمد، وطالما ظل هناك خلط بين السلام والاستسلام وسحب حق الشعوب فى الكفاح من أجل حريتها وكرامتها وسلامة أراضيها. 

دعونا نترك الفلاح لمحراثه والراعى لقطعانه والحداد لسندانه والتاجر لدكانه ليكدوا ويعملوا لتوفير الأرزاق لملايين البؤساء والجوعى والمرضى ولا نسحبهم لميادين الحرب ليزدادوا بؤسا ويزداد الطغاة غرورا.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات