نحو المستقبل.. قفزًا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو المستقبل.. قفزًا

نشر فى : الأربعاء 8 مايو 2019 - 10:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 مايو 2019 - 10:45 م

استمتعنا ونحن صغار بحكايات عن رحلات السندباد وعن جوليفار فى بلاد الاقزام ومغامرات على بابا. كانت قراءتها أو الاستماع لرواتها متعة لا تعادلها متعة أخرى. ومع ذلك لم يخالجنا شك فى أن الحكايات خيالية وأنها لن ترقى ذات يوم إلى مستوى الواقع. كنا نتسلى ونعلم أننا نتسلى.

أعترف أننى ما زلت وأنا فى هذه المرحلة المثيرة من العمر أستمتع بحكايات من نوع آخر تماثل فى وقعها وتأثيرها عند قراءتها أو الاستماع إلى صانعيها حكايات قرأناها أو استمعنا إلى رواتها ونحن أطفال. ومع ذلك يعكر استمتاعى بحكايات هذه الأيام المخصصة لنا اعتقادى أنها تفتقر إلى البراءة وأنها لا تصدر بنية الترفيه عنا وأن وراءها أكثر من قصد، وهى على كل حال للكبار فقط.

تناقلت أجهزة الأخبار أن معلمى المدارس فى ولاية وست فرجينيا فى جنوب الولايات المتحدة قرروا الإضراب. أرادوا الاحتجاج على برنامج صاغته إحدى الشركات بحجة الحاجة إلى دراسة سلوكيات هذا القطاع المهم من المواطنين الأمريكيين. يطلب البرنامج من متطوعين من هؤلاء المعلمين تنزيل تطبيق وظيفته المعلنة متابعة ورصد حالة الصحة العامة للمتطوع. تقرر الاضراب عندما شعر المتطوعون أن البرنامج يسعى لاختراق خصوصياتهم. «فالتطبيق المطلوب تنزيله يفرض على المستخدم استيفاء بيانات ومعلومات شخصية جدا وحساسة جدا»، كان هذا الاقتباس بالنص ما بعث به أحد المتطوعين من المعلمين إلى صحيفة نيويورك تايمز.

فى البداية لم يفهم المعلمون غرض الشركة التى صاغت التطبيق. البرنامج وعنوانه «ج 365» يسجل لحظة بلحظة خطوات المعلم منذ اللحظة التى يستيقظ فيها من نومه إلى اللحظة التى يعود فيها لفراشه لينام. لا يكتفى البرنامج بهذا بل يطلب من المعلم غرس مقياس الكترونى تحت مخدات فراش النوم ليحسب بالدقة الكاملة عدد ساعات نومه ونوع هذا النوم وعدد مرات تقلبه فى نومه.

***
تصادف الاضراب والكشف عن تفاصيل هذا البرنامج مع الإعلان عن قرب العمل ببرنامج يلحق بشاشات التليفزيون مهمته رصد التغيرات التى تطرأ على قسمات وجه المشاهد عند مشاهدته الإعلانات التى يبثها التليفزيون وكذلك البرامج الإخبارية ومختلف المواد الترفيهية. يقوم البرنامج بالإضافة إلى مهمة الرصد بتقديم تفسير فى الحال وعلى امتداد اليوم لعواطفنا ومشاعرنا مقابل تكلفة زهيدة للغاية. إذ يعفى التطبيق الشركة من مهمة إجراء مقابلات مع عدد لا يحصى من المشاهدين أو عدد غير قليل من المتطوعين، يعفيها أيضا من تكليف باحثين ومحللين نفسيين واجتماعيين لأداء مهمة التفسير والتحليل.

بعد قليل ظهر أن وراء الاحتجاج سببا آخر؛ إذ تبين أن الشركة التى مقرها وادى السيليكون فى ولاية أخرى تسعى من خلال هذا البرنامج إلى التأثير فى سلوكيات المعلمين بغرض تغييرها إلى سلوكيات تناسب أهدافا محددة سلفا. لم يكن خافيا أن استجابة المعلمين للحوافز والغرامات التى وضعتها الشركة تعنى التزامهم تغيير سلوكياتهم.

الأمثلة على قدرة هذا البرنامج أو غيره على تغيير سلوك المشاهدين كثيرة. يعنى مثلا لو أن المشاهد يتعين عليه النوم مبكرا فسوف يقوم البرنامج بإطلاق جرس تنبيه ثم يوقف الإرسال، بل يمكن للبرنامج القيام بذلك أيضا فى حال شعرت «الشاشة» أو رصدت أن المشاهد أصابه التعب أو بدت عليه علامات النعاس. كذلك يمكن إن قدر البرنامج أن صاحب الشأن الموضوع تحت الرقابة جلس فترة أطول مما يجب على مقعده فسوف يسارع بإبلاغه أنه يتعين عليه أن ينهض ليتمشى قليلا أو يغير مقعده. المشكلة التى ما زالت تناقش بعيدا عن الأضواء هى المتعلقة باستمرار أداء الشاشة لوظيفتها وهى مطفأة، مثلها مثل حالة معظم هواتفنا الذكية التى تراقبنا حتى وهى منزوعة الطاقة والقدرة على الأداء العلنى. ترصد التغير فى سرعات أنفاسنا وتسجل إبداعات الهمس الخافت جدا. ترى بعيونها وتصور بكاميراتها ما نجتهد ألا يراه دخيل فى عتمة الغرف أو فى الليل الدامس. نحن أنفسنا وبأيدينا نزرع فى الجدران وعلى الأسوار وفى الأركان تقنيات تصوير لتحمينا من فضول متطفلين ونوايا لصوص وفى الوقت نفسه تسهل لمغتصبين شرعيين انتهاك حقوقنا وخصوصياتنا.

فى تعليقها على الإضراب واحتجاج المعلمين والبرنامج المعد لتغيير سلوكيات المشاهدين تحذرنا كاتى فيتسباتريك فى كتابها بعنوان صعود رأسمالية الرقابة من مستقبل تلك كانت بعض علاماته وأخلاقياته.

***
«آن أوان التفكير فى منظومة أخلاقية وقانونية دولية لحماية حقوق كيانات الذكاء الصناعى، هل الموضوع مطروح للنقاش فى مجتمعاتكم الثقافية والعلمية كما هو مطروح الآن فى مجتمعاتنا؟». سألنى هذا السؤال صديقى القادم من هناك، هناك حيث اقتربت المجتمعات من المستقبل إلى حد غير مريح. أجبت بالنفى. قلت إن مجتمعاتنا لا تزال تبذل الجهد وراء الجهد لرفع قبضة الماضى عن رقبتها، ماض متشبث بنا ولا يريد أن يغادر. بعض ما يتبقى لهذه المجتمعات من وقت وجهد تقضيهما شامتة فى الغرب وما أصابه من جراء اقترابه من مستقبل غريب.. غريب.

يا صديقى، هل تطلب من مجتمعاتنا التفكير فى حماية حقوق الروبوتات وغيرها من منتجات عصر الذكاء الصناعى وهى التى لم تفكر بعد فى وضع قوانين لحماية حقوق كائناتها البشرية. أظن أن بعض هذه المجتمعات سوف ينتظر إلى حين تبدأ الصين فى تصدير فائض إنتاجها من معامل الذكاء الصناعى فنستورد ما يلزمنا ومعه منظومات صيانتها وحمايتها. هكذا فعلت مجتمعاتنا عندما استوردت المستشارين والخبراء ورجال المال الأوروبيين ومعهم قوانين الامتيازات الأجنبية. أعرف وتعرف أن مجتمعاتنا العربية والإفريقية لم تشرع بعد فى تعلم أسرار الذكاء الصناعى، وبالتالى سوف نتأخر فى إنتاج كائنات غير بشرية أو حيوانية. معنى هذا أن هذه المجتمعات لن تتمكن بقدراتها الذاتية من صيانة ما تستورده من منتجات هذا الذكاء، وستجد نفسها مجبرة على استيراد «خبراء» من البشر أو من نفس النوع الأذكى من البشر لأعمال الصيانة. مرة أخرى وفى أقل من قرن ونصف تعود هذه المجتمعات لتخضع فعليا لهيمنة أجنبية. الاختلاف الوحيد أن الأجانب هذه المرة لن يكونوا من بنى البشر بل كائنات انتجتها معامل الذكاء الصناعى مزودة بجرعات كافية من ثقافة استعمارية متطورة وخلاصات تجارب وخبرات إدارية متقدمة للغاية ونية مؤكدة لتغيير سلوكيات الشعوب التى استوردتها.

يطلب منى الصديق العائد من بلاد المستقبل أن أتمنى على معارفى من الحقوقيين العرب والأفارقة والخبراء فى صنع الدساتير صياغة منظومة أخلاقية وقانونية لضمان حقوق وخصوصيات الروبوتات نصف البشرية، إحدى أهم ثمار ثورة الذكاء الصناعى، لتكون هذه المنظومة جاهزة عند استقبال ملايين الروبوتات القادمة خلال سنوات قليلة للعمل فى مصانعنا والمنازل وفى خدمة الأمن والتجارة والنقل والسياحة والتعليم والإدارة ووووو.. إلخ. ينتظر صديقى بتفاؤله المعتاد أن يؤدى الاهتمام بحقوق الإنسان الآلى فى مجتمعاتنا إلى اهتمام مماثل فتتجدد منظومتا حقوق الإنسان الطبيعى وحقوق الحيوان كذلك، إن وجدتا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي